قربة السعودة المثقوبة
يؤخذ على وزارة العمل أنها في الوقت نفسه الذي تقول فيه إنها تعمل وتجهد في معالجة مشكلة البطالة في بلادنا، تفتح الباب لاستقدام أعداد كبيرة من العمالة الأجنبية سنويا، فكيف يستوي هذا مع ذاك .. ؟ !! هذا ما لا يفهم، وإن فهم لا يستوعب ولا يهضم، فاستمرار الاستقدام وبهذه الوتيرة المتزايدة حتى بات يعيش بين ظهرانينا أكثر من ثمانية ملايين أجنبي نسبة كبيرة منهم لا حاجة لنا بها ولا تعمل في أعمال نحتاج إليهم فيها ويشغلون أعمالا ووظائف يمكن إشغالها بمواطنين، لا يستقيم مع أي جهد مهما كان جادا ومخلصا لتوفير فرص العمل لأبنائنا المسرحين في الشوارع بلا عمل ولا فرص متاحة لهم، فسوق العمل مسيطر عليه تقريبا من قبل الأجانب، ومنهم من احتكره احتكارا مقفلا عليهم وعلى أبناء جلدتهم مستغلين في ذلك نظام استثمار الأجانب الذي أتاح لهم أيضا الاستقدام، وكم هناك من مضحكات ومبكيات في ذلك.
في هذا السياق الدعوة للسعودة ليست عنصرية كما يقول البعض، فنحن ليس لدينا عقدة الأجنبي ولا موقف سلبي من الأجانب عموما، فهذه البلاد يشهد لها بفتح أبوابها لهم من كل الجنسيات وبصدر رحب، وعلى الرغم من مزاحمتهم السعودي في لقمة العيش، إلا أنه لم ولن تسجل أي حادثة تدرج ضمن العنصرية ضد الأجانب كما يحدث في عديد من البلدان الأوروبية وغير الأوروبية، فنحن شعب مضياف وطيب وزدنا على ذلك الكسل، نعم الكسل، فهناك من وجد في الأجنبي من يعفيه من العمل والجد والكسب بعرق الجبين بالتكسب منه بأسهل الطرق وأيسرها بما يعرف بالتستر، ومن يجادل في ذلك فعليه أن يبحث عن صاحب العمل السعودي الأصلي فلا يجده, بل يجد الأجنبي الذي استأجر منه التصريح، والذي أخذ يعمل ويكد ويكدح، ويقدم لكفيله آخر الشهر مبلغاً ماليا مقطوعا، وبهذا فحن جميعا نتشارك في المسؤولية عن مشكلة البطالة، ولا نلقي اللوم فقط على وزارة العمل للإنصاف، فهذا السعودي الذي يؤجر محله للأجنبي، لماذا لا يؤجره لشاب سعودي، أو يشغل فيه ابنه العاطل مثلا ..؟!!
لقد جاءتني في بريدي الإلكتروني رسالة تحكي هذا الواقع المر، تقول الرسالة إن عاملا أجنبيا استقدمه سعودي للعمل في محل لبيع السندوتشات، وبعد مرور وقت قصير وبعد أن فهم ذلك العامل السوق عرض على كفيله السعودي أن يؤجره المحل بألفي ريال صاف شهريا، ويرتاح من وجع رأس متابعة المحل وتأمين متطلباته، وما هي إلا سنتان فقط إلا وهذا العامل الذي جاء بثوبه فقط، وقد فتح فرعين آخرين باسم الكفيل الذي كان سعيدا ومبسوطا على الآخر وهو يتسلم شهريا من عامله المستقدم ستة آلاف ريال شهريا، بينما أصبح هذا العامل رجل أعمال مستتر يجني عشرات الألوف من دخل المحال الثلاثة، ويقال إنه في طريقه للتوسع ..!!
هذا كله يعكس كيف أن السعودة قضية كبرى وتحد أكبر علينا مواجهته وجعله على رأس اهتماماتنا وهمومنا، وأنا هنا أتفق تماما مع معالي الدكتور غازي القصيبي حين قال إن على السعوديين ألا ينتظروا أن تمطر عليهم السماء وظائف حكومية، فهذا صحيح وإن استفز البعض، ولكن يقبل من غيره وليس منه، فمهمته كوزير للعمل ليس التحذير والتشخيص للحالة، بل الحلول واتخاذ الإجراءات العملية لمعالجة مشكلة البطالة ومعوقات السعودة خصوصا بعد أن أعلن وكيل وزارة العمل الدكتور عبد الواحد الحميد أخيرا فشل سياسة السعودة ..!!، وهذه ليست شفافية، بل خيبة أمل كبرى، وأظن أن البدء بالحلول الصحيحة هو في تعديل وتغيير وتطوير برامج التدريب المختلفة لتأهيل العامل السعودي المنتج، والتي فشلت هي الأخرىِ، وكان من الأجدى الإعلان عن فشل برامج التدريب وليس السعودة، فلولا القصور في هذه البرامج وبعدها عن الواقع وهروبها منه للدعاية لبرامج لم نجن منها شيئا حتى الآن، لما فشلت السعودة.
إن كنا جادين فعلا في السعي للسعودة والحد من البطالة، فعلينا تغيير فكر برامج التدريب ونقلها من حالتها الحالية المتحجرة إلى فضاء الواقع العملي، وذلك من خلال التدريب المتلازم مع سوق العمل، وغرس مفاهيم وثقافة عمل حقيقية، ونقل المسؤولية عنه من المكاتب المكيفة إلى واقع سوق العمل، وغياب ذلك هو أحد أهم أسباب المشكلة وعدم استطاعتنا حلها على الرغم من كل هذه الخبرة الطويلة في مجال التدريب، وبذل الدولة مبالغ طائلة ولكن في برامج تدريب لا تضيف يدا سعودية عاملة تستطيع أخذ زمام المبادرة، فسوق العمل ما زال يشكو قصور التدريب تحججا وحقيقة.
نأتي للجانب المهم في هذا كله وهو هل الشاب السعودي مستعد للعمل في كثير من المهن التي يمارسها الأجانب حاليا ..؟، وهذا سؤال مهم وقضية جديرة بالمناقشة والبحث والدراسة لاستنباط الحلول لها، نعم غالبية السعوديين ليسوا مهيئين لممارسة مثل هذه الأعمال، كأن يقفوا لإعداد السندوتشات وبيعها، أو الوقوف في بقالة صغيرة أو قرطاسية وغيرها، وهنا يسأل هل العمل المتاح للسعوديين قاصر على مثل هذه المهن ..؟
إن كنا معنيين فعلا بتوفير فرص عمل كريمة ومجدية لشباب سعودي مؤهل، فليس علينا أن نقصر جهدنا بداية على مهن بسيطة كنادل أو حلاق وغيرهما من المهن ذات الدخول المحدودة، بل علينا التركيز على مهن أخرى لا يزال يسيطر ويهيمن عليها أجانب يحصلون منها على دخول مهولة تدخل لخانة عشرات الألوف من الريالات شهريا غير البدلات الأخرى، وهؤلاء تعج بهم معظم الشركات والمؤسسات والأسواق، فراتب الواحد منهم يكفي لتوظيف عشرة شباب مؤهلين بما لا يقل عن ثمانية آلاف ريالاً شهرياً، وهي مهن ليست معقدة ولا تحتاج إلى مؤهل وخبرة نادرة، وهناك كثير من شبابنا المؤهل العاطل قادر على القيام بمثل هذه الأعمال إذا توافر له التدريب المناسب والفرصة الكافية لاكتساب الخبرة التي يوفرها الأجانب فقط لأبناء جلدتهم وأقربائهم ويحرم منها السعودي، وهذا واقع علينا ألا نتهرب منه، ويؤكد فعلا أن قربة السعودة مثقوبة.