القانون السادس من قوانين البناء المعرفي: منافذ الفهم

حين وصف القرآن الكافرين قال إن منافذ الفهم عندهم لا تستقبل الإشارات الكونية، وفي أكثر من موضع: "صم بكم عمي فهم لا يعقلون"! بل وصف الكفر والإلحاد بالدفن وقبر الروح بدون استقبال أشعة الكون المتدفقة مع كل لحظة. ووصف الإيمان هو ذلك الأمل العظيم في معنى الحياة؛ فاليأس أخو الكفر، والقنوط صديق الضلال.
ومنافذ المعرفة أربعة السماع، النطق، القراءة، والكتابة.. فلنفتح نوافذ الفهم مثل شبابيك الغرف المظلمة كي تتهوى ويتخللها هواء منعش.
"إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا".
ويوم القيامة يقولون "لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب الجحيم".
إنها أدوات الإيمان بالتشغيل، والكفر بالإغلاق.
والكفر لغةً الردم والطمر والإخفاء..
والإيمان إذن هو استقبال أشعة الكون الرائعة فتنشط الروح، كما تنشط الحواس، باستقبال ضوء مثير ولون بهيج ونغم بديع.
ومنافذ المعرفة أربعة السماع والنطق، فوجب تدريب الحوار العقلي، والقراءة والكتابة فوجب تنشيط الذهن بحوافز الأفكار بالقراءة الصامتة، والقراءة الإيجابية، والمنوعة، والصادمة أحيانا؛ فوجب الاطلاع على التراث الإنساني كله.
الصامتة استيعابية، والإيجابية ألا ينام الإنسان معها! بل يطرح السؤال ليجد جوابه بالبحث بين أكداس الكتب والصفحات والنشرات والإنترنت.
والمنوعة من كل بستان زهرة، ومن كل حقل فكرة، ومن كل مفكر عبرة، ومن كل فيلسوف قبسة.
وهذا يعني فتح أفق التفكير والاطلاع، فليقرأ الإنسان للعقلاء والمجانين، وهم ليسوا مجانين بل الناس سموهم كذلك.
ليقرأ هلوسات ماوتسي دونج في كتابه الأحمر، وخرابيط القذافي في كتابه الأخضر، وترانيم كورتوا الشيوعي المخضرم في كتابه الأسود! وسحبات ونفثات نيتشه مع هكذا تكلم زرادشت. واعترافات الكاهن جان مسلييه وكفره بالكنيسة، ونقد فولتير اللاذع، وعمق التحليل عن لابواسييه في مسألة الطغيان، وحدة القصيمي في الرسائل المتفجرة مع القلعجي، وروعة قلم النيهوم في محنة ثقافة مزورة، وجدل هيجل في الأضداد، ومسحة التشاؤم عند شوبنهاور، ودأب البدوي في مسحه الفلسفي، ليصل إلى الإنسان الكامل في الإسلام.
أو تلك الكتابة السهلة الممتنعة عند طه حسن والوردي، وبحث أمين حول الحقيقة. وتاريخ العقل عن المسلمين في تاريخ أحمد أمين. وإبداع كامل حسين في وحدة المعرفة. وصوفية الغزالي. وفلسفة كانط، وصوفيات ابن العربي، بل وإلحاد وكفر ميشيل فوكو بالإنسان، ودعوته مع هابرماز الألماني إلى ما بعد الحداثة.
ليقرأ ولا يتشنج، وليطلع ولا يقف عند حافة وزاوية، بل يقول كما علمنا الرحمن؛ "وقل رب زدني علما".
وحسب برتراند راسل فهو يقول لو كان الأمر إلي لعرضت على عقول الأطفال أكثر الآراء تباينا، حتى أنمي عنده ملكة النقد.
وما نحتاجه اليوم العقل النقدي أكثر من النقلي؛ فالعقل النقلي يبرر ويدافع وينشر، ويمشي إلى الأمام بمهمة وعظية للآخرين.
أما النقدي فهو للداخل يمحص الأفكار ويغربل، ويتأكد المرة بعد المرة، فينقد ثم ينقد النقد، ثم ينقد نقد النقد، وهي عملية النفس اللوامة التي ستنجح في اجتياز عقبات يوم القيامة.
ويجب أن يفهم طرفا النزاع في المجتمع، كما ذكر أحمد أمين في كتابه التاريخ العقلي عند المسلمين، أنه لو بقي تيار العقل والنقل يعدل بعضهما بعضا بين جموح وفرملة، لكتب للعالم الإسلامي مصير مختلف، بل ربما كما ذهب إلى ذلك (غالب هسا) في كتابه العالم فكر ومادة إلى قيادة الجنس البشري...
ولكن استيلاء تيار النقل وتحطيم العقل ضرب جناح العالم الإسلامي فهوى طير بجناح واحد يتلوى من هول الوقعة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي