سوق السندات وقود الإنتاج وينبوع الزكاة
لم تقلب الثورة الصناعية جميع موازين الإنتاج ومفاهيمه فقط، بل إنها قد غيرت جميع مظاهر الإنسانية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في أوروبا ومن بعدها أمريكا. جاءت الثورة الصناعية في أواخر القرن الـ 18 وأوائل القرن الـ 19 فكان مما اصطدمت به وسائل التمويل للمشاريع العملاقة التي لم تعد مزرعة وقطيعا من الماشية يؤخذ قهرا أو يورث إرثا أو يربى صغيرا ليصبح كبيرا. الثورة الصناعية أتت بمشاريع هائلة لا تبدأ إلا على صورتها الضخمة التي هي عليها، كما خلق الله آدم على صورته طوله ستون ذراعا. جاءت الثورة الصناعية بالموانئ وسكك الحديد ومصانع السيارات والطائرات والسفن العملاقة والآلات الضخمة ومحطات توليد الكهرباء وتكرير النفط. وحارت عقول العباقرة في جمع التمويلات اللازمة لها سواء من الأغنياء ملاك المزارع والمواشي أو من عامة ما يحفظه الناس من أموال. فانقسم العالم الذي كان يعيش الثورة الصناعية إلى مدرستين فكريتين.
مدرسة قامت على مبدأ الإكراه بالمشاركة ومبدأ المساواة في توزيع الثروات. ومدرسة قامت على مبدأ الترغيب بالمشاركة عن طريق توزيع الثروات بناء على مقدار المشاركة. فالأولى هي الشيوعية الظالمة التي استولت بواسطة الدولة على أموال الناس من ثابت ومنقول بالإكراه وسخرتهم بالحديد والنار للعمل في المشاريع تحت ظل شعارات جميلة براقة لا أصل لها على أرض الواقع. والمدرسة الأخرى هي الرأسمالية الحديثة.
قسمت الرأسمالية الحديثة الناس على أساس شخصياتهم وإمكاناتهم إلى قسمين رئيسين. الأول هم الأشخاص الذين يميلون إلى نزعة المخاطرة أو إلى من يملك فوائض مالية يستطيع أن يتخلى عنها لفترة طويلة من الزمن. فكان أسلوب مشاركة هؤلاء الصنف من الناس عن طريق الأسهم التي هي ملكية حقيقية في المشاريع.
وأما القسم الثاني من الناس (ويدخل في ذلك البنوك) فهو من يميل إلى الروتين والثبات فطرة أو نظاما فهو لا يحبذ المخاطرة أو الأشخاص الذين يملكون فوائض مالية تزيد على حاجتهم في الأجل المنظور ويريدونها أن تكون متوافرة لهم عند الحاجة. فكان لهذا الصنف من الناس السندات طويلة الأجل وقصيرة الأجل.
وبحلول منتصف القرن الـ 19 ظهرت الحاجة إلى نظام مالي جديد. فقد كان التطور والنمو في الإنتاج هائلا لم يسبق له مثيل في الحياة البشرية وأدرك مفكرو أمريكا الاقتصاديون أن هذا النمو المتسارع سيؤدي حتما إلى أزمات مالية متكررة سيكون مردها وسببها دوما نقص التمويلات. فارتفاع الأسعار هو نتيجة حتمية للنمو كما أثبتته النظرية الكنزية الحديثة فإن لم تقابله سيولة كافية دخل الاقتصاد في دوامة التقهقر والانكماش. فجاء الرأي بدعيا لا مثيل له في تاريخ النظام المالي وهو فصل الفلوس عن الذهب لتتحقق بذلك ثلاثة أهداف رئيسة: الأول إعطاء الحكومة موردا لتمويل نفقاتها عند الضرورة دون الحاجة إلى فرض ضرائب من شأنها إعاقة الإنتاج وإثارة الشغب، وهذا ما غص به اليهودي المجري الأصل قرين سبان (رئيس الاحتياطي الفيدرالي السابق) في شبابه ووصفه بالحيلة الماكرة الخبيثة لسرقة أموال الأغنياء في مقاله المشهور عام 1966م "الذهب وحرية الاقتصاد" والذي احتوى مضمونه على تشابه عجيب مع شيخ الإسلام بن تيمية في وصفه للثمن وشروطه. وأما الهدف الثاني من فصل الفلوس عن الذهب فهو إجبار مكتنزيها على استثمارها بعوائد عادلة لكي يشاركوا بها في بناء الأوطان بدلا من فقد قيمتها الشرائية مع الزمن. وأما الهدف الثالث فهو مواكبة السيولة للنمو. والأهداف الثلاثة كانت محور الردود التي ردت على مقال قرين سبان الشهير والذي أدرك ذلك لاحقا وفهمه فهما عميقا فقاد سياسة بلاده النقدية قيادة حكيمة جعلت منه أسطورة الاقتصاد المعاصر.
في الماضي كانت البنوك تمتلك قوة احتكارية طبيعية في تمويل المشاريع، يكمن سر احتكارها للتمويل في توافر المعلومات والسيولة لديها، هذا الاحتكار كان يشكل قيدا على التمويلات ورفعا لتكلفتها وتجميع للأموال في خزائن البنوك, ومن هنا ازدهرت سوق السندات لكسر هذا الاحتكار الطبيعي الذي كانت تتمتع به البنوك سابقا.
ووجود سوق للسندات دفع إلى ظهور شركات (كموديز وستاندر آند بورز) تخصصت في جمع المعلومات وتحليلها عن الشركات وتقييم الملاءة المالية لها وحسن أدائها الإنتاجي وإدارتها، والتي أصبحت تسمى شركات التصنيف والتقييم، فلم تعد المعلومات حكرا على البنوك. وأما السيولة فأصبحت توفرها سوق السندات بالبيع والشراء فلم يعد السند يشكل عبئا على صاحبه متى أراد الحصول على ثمنه.
وتختلف السيولة في سوق الأسهم عن سوق السندات من حيث مخاطرتها وتذبذبها. فرب الأسرة الذي يحتفظ بـ 100 ألف ريال تحسبا للطوارئ لا يريد المغامرة بها في سوق الأسهم حيث ممن الممكن أن تفقد نصف قيمتها في أيام معدودة. فليس أمامه إلا أن يعطلها فتتآكل قيمتها بسبب تناقص قيمة العملة الذي أصبح أصلا في فلوسنا المعاصرة أو أن يشتري بها سندات آمنة من سوق السندات تعود له بفوائد بالكاد تغطي الزكاة وتغطي قيمة تناقص قيمتها مع الزمن، ويستطيع بيعها عند الحاجة دون نقص أو زيادة كبيرة في سعرها الذي يتغير قليلا مع تغير سعر الفائدة. وخير مثال نعيشه الآن هو استثمار فوائض النفط في سندات حكومية آمنة يباع منها على قدر الحاجة دون المخاطرة بقيمها في سوق الأسهم. وكم من مآس تروى عن أشخاص جمعوا المال حفظا في الصناديق للحج أو لتعليم أبنائهم في الجامعات فوجدوها وقد تآكلت قيمها فلم تغن عن أحلامهم شيئا.
وللسندات وأنواعها وأسواقها وآجالها وطرق استغلالها من جهة المنتج أو الممول حديث شيق ممتع يطول لا يصلح سرده قبل أن نقف مع التكييف الشرعي للسندات.
قال تعالى: "ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتفكرون". ديناميكية عمل السندات أقرب ما تكون من حيث التكييف الفقهي بعبد الله الذي بنى سوقا ثم باعها لمستثمر لمدة زمنية معينة ولنقل 20 عاما، يدفع المستثمر فيها مبلغا من المال سنويا على أن تعود السوق إلى صاحبها بعد 20 عاما. وفقهيا قد يُضيق هذا المعنى على بيع المنفعة. وخلال هذه الفترة قد يطرأ على عبد الله بيع سوقه فيبيعها على آخر بوضعه الاستثماري, فتنتقل العوائد السنوية للمالك الجديد وتعود السوق له بعد انتهاء المدة والتي ستكون السوق عندها مستهلكة. فالمالك هو الممول والمستثمر هو المنتج والفلوس هي السوق والاستهلاك هو تناقص قيمة الفلوس والفوائد هي الإيجار السنوي، وبيع السوق من الأول إلى الثاني هو ما يحدث في سوق السندات والسند هو العقد الذي تم الاتفاق عليه في اليوم الأول من الـ 20 عاما.
فالسندات وسوقها إذن بيع صحيح لم تداخله نية الإرفاق فهو ليس بمعاوضة غير محضة. ومن الخطأ الشنيع أن يطلق على هذا البيع قرضا ويقصد به المعنى الشرعي للقرض. ويبقى أن يُنظر في وضع الفلوس هل هي مما يجري فيها ربا البيوع أي أنها من الأصناف الستة أو ما يقاس عليها؟ قد وضحت في مقالات سابقة أن القول بربوية الفلوس المعاصرة لا ينضبط على أي من أقوال السلف، إذن فالسندات وبيعها وشرائها جائز لا إشكال فيه. وعلى المخالف أن يأتي بالدليل الصحيح. وزكاتها واجبة لأنها مال قابل للنماء وتداولها في سوق السندات يجعلها كعروض التجارة يزكى أصل قيمتها وليس فوائدها فقط.
ولا بد من وقفة مع ما يسمى الصكوك. فالصك هو سند لا يختلف عنه بأي حقيقة ما عدا الألفاظ. وأقول للقارئ الكريم أرجع إلى بحث الشيخ محمد تقي العثماني الذي قدمه إلى المجمع الفقهي في الشارقة، فقد عرى فيه حقيقة الصكوك في كل نقطة ولم يدع هناك أي فرق حقيقي بين السند والصك. وقد وضع الشيخ تقي الدين عثمان شروطا لصحة الصكوك، هي في الواقع قريبة جدا من حقيقة الأسهم الممتازة preferred stock. وقد احتال بعضهم في التضليل عن حقيقة ما قاله الشيخ تقي الدين عثمان فصوروا المسألة على أنها خلاف بسيط في القيمة الاسمية للصك عند انتهاء مدته، والرجوع إلى بحث الشيخ محمد يظهر جانبا بسيطا من تحايل هؤلاء وخلطهم الأمور وتلبيسهم على الناس.
وهناك أمر خطير جدا في الصكوك. فهي وإن لم تخالف السند حقيقة فإن المروجون لها يزعمون أنها ملكية حقيقية لأصول وأن فوائدها هي إجارة هذه الأصول. (وأي ملكية لا يزيد سعرها ولا ينخفض مع الزيادة والنقص في قيمة الأصل! وأي إجارة ترتبط بسعر الفائدة لا بسعر الأصل المؤجر!) لكن المصيبة هنا أنهم بادعائهم هذا يسقطون الزكاة عن الصكوك ثم يرمون السندات بدائهم الذي ابتلوا به.
وختاما فالسندات وسوقها وديناميكيتها ودورها في الاقتصاد أكبر وأعظم وأعقد من أن تحويها مجلدات فما بال من يجهلون أبجديات الاقتصاد والاستثمار جهلا مركبا قد نصبوا من أنفسهم منظرين ومحكمين في السندات وسوقها! وما صكوكهم إلا حجة عليهم تفضح جهلهم وبساطتهم وضحالة إدراكهم. فليتقوا الله فلا ينشروا الفوضى بين العباد ولا يعطلوا تقدم البلاد ولا يقذفوا المسلمين ومن تولوا الأمر منهم بأشنع الألفاظ الشرعية ولا يخفوا بعض الكتاب ويبدوا بعض فالوعيد فيه شديد لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.