نظام التسوية الواقية من الإفلاس بين تفعيله أو تعطيله (2)
إذا كان الفكر القانوني الغربي قد أدرك مفهوم الصلح الواقي من الإفلاس منذ زمن، فإن الفقه الإسلامي كان له السبق في معالجة مثل هذه القضايا وترتيب ضوابط إبراء المعسر، وإنظاره، وجعل من انتقال التاجر من ميسرة إلى العسرة ضابطاً للإنظار، وذكر الفقهاء أنه إذا كان المدين مقلا غير معدم بحيث أنه يملك مالا ولكنه قليل لا يكفيه لقضاء دينه إلا بضرر أو مشقة أو ضيق فيستحق المنظر ثواب الآثار عن نفسه وعلى ذلك تدل الروايات بأنهم لا يوكلون عن المدين في بيع عروضه وعقاره في الحال ويؤجلونه بالاجتهاد لئلا يدخل عليه مضرة، فالفقه الإسلامي هو نتاج تلاقح الوحي المنزل (القرآن والسنة) بالعقل البشري في عملية الاجتهاد سعياً لتحقيق مقاصده في إطار الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية السياسية المتغيرة، كما أن الفقه الإسلامي ثري وقابل للإبداع والغني بحاجات الأمة ومصالحها. ولهذا فإن الأصل فيه المرونة واليسر واستمرار النمو والتطور، والحاجة الدائمة إلى تجديد ما بلي، وإعادة قراءة النصوص الشرعية في ظل ثوابتها ومتغيرات الحياة ومحاولة التعرف إلى حكم الله المتعلق بأفعال العباد فيما يستجد من نوازل وواقعات في ضوء المصالح المتغيرة.
قال تعالى ''وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة'' وروى مسلم في صحيحه عن أبي اليسر - رضي الله عنه - قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ''من أنظر معسراً أو وضع عنه أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله''.
من هذا المنطلق صدر نظام التسوية الواقية من الإفلاس السعودي منذ أربعة عشر عاماً في عام 1416هـ وتحديداً في الرابع من شهر رمضان عام 1416هـ، وهو على غرار الصلح الواقي من الإفلاس في القوانين المقارنة، ويمثل هذا النظام الوسيلة الأكيدة للمحافظة على المعاملات عند اضطراب الوضع المالي بما يجعل التسوية الواقية من الإفلاس تخضع للنظر المحايد وتحضير مقومات الفحص والتحليل والمحافظة على المقدرات كجزء من استحقاقات يتأثر بها المجتمع وتقوم عليها صناعة بقاء الحياة للمنشآت التجارية بدلاً من تدميرها.
وفي وقت بدأت تظهر فيه ملامح أزمة ائتمانية يصاحبها حذر وتشدد من البنوك وأحياناً توقفها عن تجديد القروض بسبب عدم وضوح رؤى الظروف الاقتصادية عالمياً ومحلياً، ما جعل القاعدة التمويلية لهذه القروض قصيرة الأجل، تظهر الحاجة لتفعيل نظام التسوية الواقية من الإفلاس.
ولذا قصر النظام طلب التسوية الواقية على المدين التاجر وحده باعتباره هو الذي يقدر حقيقة حالته المالية ومدى ملائمة هذا الطلب فأجاز له النظام أن يتقدم إلى ديوان المظالم مبيناً أسباب اضطراب أحواله، ومنح النظام للقضاء - ديوان المظالم - سلطة في حق الإشراف على إجراءات التسوية فأجاز النظام لديوان المظالم أن يصدر أمرا باتخاذ التدابير الواقية للمحافظة على أموال المدين، كاتخاذ الإجراءات اللازمة للمطالبة بالورقة التجارية قبل انقضاء المدة المحددة للمطالبة، وتوقيع الحجز التحفظي وحجز ما للمدين لدى الغير، ومصادرة خطاب الضمان قبل انتهاء مدته، وإيداع النقود المتحصلة في أحد البنوك، بل تعدى ذلك إلى تعيين بعض العاملين أو عزلهم ولديوان المظالم ندب خبير أو أكثر على نفقة المدين لتقديم تقرير عن حالته وأسباب اضطرابها، وتختلف التسوية الواقية من الإفلاس عن التصفية وعن الإفلاس ذاته، حيث لا تهدف التسوية إلى تصفية أموال المدين، بل تهدف إلى تمكينه من متابعة نشاطه ومعاودة أعماله التجارية، ومن ثم فإصدار القاضي قرار بافتتاح إجراءات التسوية لا يغل يد المدين عن إدارة أمواله والتصرف فيها، بل يستمر في إدارة أعماله التجارية العادية. كما لا يترتب على قرار افتتاح إجراءات التسوية حلول آجال ديون المدين، في حين أن الإفلاس يشل يد المدين عن إدارة أمواله. ولديوان المظالم تجربة ناجحة في تأهيل أصحاب الفضيلة من القضاة على نظام مكافحة غسيل الأموال، حيث عقدت لهم الدورات التدريبية المتقدمة والمكثفة في ذلك، ولعل نظام التسوية الواقية من الإفلاس يجد ذات الاهتمام والعناية في وقت يتزامن مع ظهور الأزمة الحالية التي يتصدى لها النظام، كما أن بعض الغرف التجارية السعودية أسست قسماً لذلك، إلا أن محاولات تفعيل النظام ظلت خجولة ومتعثرة ولم تكن المسألة واضحة، إلا أنه ما زالت القدرة على توظيف النظام وإسهامه في خدمة التنمية بعيدة المدى دون المأمول وهي لم تتجاوز تحسين ظروف الحال بإنتاج يمكن تلمس آثاره على البيئة المحلية.
ولا شك أن توظيف أحكام نظام التسوية الواقية من الإفلاس كإحدى الوسائل والأدوات لمواجهة الأزمة الائتمانية في هذا التوقيت، لا تنفك عن مواجهة نتاج الأزمة المالية وترسيخ مبدأ المشاركة ورفع هيمنة الدائنين عن المدينين، وهو نظام ساهم بشكل فاعل في نهضة الغرب وإخراجهم من أزمات الائتمان والإفلاس لمنشآتهم إلى مدارج التقدم والبقاء، ولذا فإننا مطالبون بالالتفات أكثر إلى هذه الحقيقة، خصوصا أن بلدانا نامية مثل الهند وماليزيا وكوريا وسنغافورة حققت تقدماً في المحافظة على بناء قاعدة تعتمد المحافظة على مقدراتها التجارية والصناعية كوسيلة لمواجهة تداعيات الأزمة المالية.
إن هناك ما يدعو اليوم للقلق على مستقبل الائتمان المالي والتجاري في المملكة، حيث بدأت البنوك باحترازات مشددة في إمكانية الإقراض وتجديده، وأصبحت تخضع لتقييم مبالغ فيه وهي خطوة بالغة الضرر في سبيل استمرار وتنامي التسهيلات الائتمانية، وبين هذا وذاك تبدو معادلة الحفاظ على منشآتنا التجارية من عثراتها المالية دون إخلال بالتوازنات القائمة مهمة ليست ضرورية فحسب بل وحتمية، هذا إذا اعترفنا أن ما يحدث قد يستنفد طاقاتنا الاقتصادية.