إصلاح الأنظمة المالية يبدأ بالحوافز
تنتشر مقترحات إصلاح الأنظمة المالية في كل مكان في الوقت الراهن. الإصلاحات الأكثر أهمية جاءت من الولايات المتحدة، حيث طرحت إدارة الرئيس باراك أوباما في الأسبوع الماضي قائمة من الأفكار الشاملة، وإن كانت جبانة. لكن هل تجعل مثل هذه المقترحات النظام أقل عرضة للأزمات؟ إجابتي هي لا. وسبب تشاؤمي أن الأزمة فاقمت ضعف القطاع. ومن غير المحتمل أن تبطل الإصلاحات المتصورة هذا الخطر.
في صلب الصناعة المالية شركات ذات مديونية عالية، نشاطها الرئيسي هو إيجاد موجودات ذات قيمة غير مؤكدة والتداول بها، بينما تتولى الدولة، كما تم تذكيرنا، ضمان مطلوباتها. وهذا الأمر بمثابة ترخيص بالمقامرة بأموال دافعي الضرائب. والسر هنا هو أن الأزمة تنفجر بصورة نادرة للغاية.
المكان الذي يجب البدء منه يتعلق بصلب الرأسمالية الحديثة، أي شركة الأسهم المشتركة ذات المسؤولية المحدودة. وكانت البنوك التجارية الكبرى من أهم منتجات ثورة المسؤولية المحدودة. غير أن البنوك هي أنواع خاصة من الشركات: بالنسبة لها الديون هي أكثر من وسيلة لإنجاز العمل، بل إنها هي مجال عملها. وهكذا من المحتمل أن يكون للمسؤولية المحدودة أثر كبير واستثنائي على سلوكها.
قدم لوسيان ببشك وهولجر سبامان، من كلية القانون في جامعة هارفارد الحجة الأكبر في ذلك، في ورقة عمل حديثة ومتميزة*. تركز الورقة على الحوافز التي تؤثر على الإدارة، فهي مهمة للغاية. غير أن الأمر الذي يظل أكثر أهمية من ذلك هو لماذا يكون بنك ذو مسؤولية محدودة، ويدار لصالح حملة الأسهم، خطراً للغاية؟
في نشاط مدين إلى درجة كبيرة، وذي مسؤولية محدودة، فإن حملة الأسهم يقدِمون بعقلانية على مخاطر كبيرة، لأنهم يتمتعون بكل جوانب الميزات، بينما جانبهم السلبي له سقف يغطيه، إذ لا يمكنهم أن يخسروا أكثر من حصتهم في الأسهم، مهما كانت ضخامة خسائر البنك. ويعتبر معدل المديونية عند 30 إلى واحد أمراً عادياً في البنوك المعاصرة. غير أن المديونية الأعلى ليست أمراً نادراً. وكما يجادل المؤلفان «لدى حملة أسهم البنك المدين حافزاً لزيادة تقلب موجودات البنك».
فلنفكر بأنموذجي عمل لديهما العوائد المتوقعة ذاتها. تلك العوائد في أحدهما مؤكدة وثابتة، بينما تتكون المحصلة في الثاني من فترات طويلة من العوائد المرتفعة والخسائر الكارثية من حين إلى حين. سيفضل حملة الأسهم العقلانيون الثاني. وهذا ما يراه المرء: عوائد أسهم مرتفعة من خلال معايير النشاطات الراسخة الأخرى، وحالات مسح للموجودات من وقت إلى آخر.
يضيف البروفيسوران، ببشك وسبامان، أن أربع خصائص للنظام المالي الحديث تجعل الوضع أسوأ من ذلك. أولا، أن رأسمال البنك نفسه يتم تمويله جزئياً بالديون. ثانيا، أن دور الشركات القابضة المالكة للبنوك يمكنه أن يعمل على زيادة حوافز حملة الأسهم للتقليل من شأن المخاطر. ثالثا، أن المديرين يكافأون على موازنة مصالحهم بمصالح حملة الأسهم. ورابعا، أن بعض وسائل مكافأة المديرين، كما في حالة خيارات الأسهم مثلا، هي بحد ذاتها لعبة مدعومة بالتوافق مع مكافآت حملة الأسهم. ولذلك تكون للمديرين مصلحة اقتصادية أكبر مما لدى حملة الأسهم في «التوجه للإفلاس» أو «الرهان على البنك». وكما تلاحظ ورقة العمل هذه، فإن حقيقة خسارة بعض المديرين مقادير كبيرة من الأموال لا تظهر أنهم كانوا حمقى في هذه الرهانات، لأن جانبها الرابح كان ضخماً للغاية .
ويبدو أن هناك حلاً واضحاً: دع الدائنين يخسرون. وفي مثل هذه الحالة يمكن أن يلجأ الدائنون العقلانيون إلى إضافة مبالغ خاصة بالمخاطرة فيما يتعلق بالعمليات التي تتصف بمخاطر عالية، الأمر الذي يؤدي إلى مستويات أدنى من المديونية. وهناك أحد الاعتراضات التي تقول إن الدائنين يمكن أن تكون لديهم معلومات قليلة للغاية حول المخاطر التي يتم الإقدام عليها من جانب البنوك التي يقرضونها. لكن هناك اعتراض أقوى من ذلك، إذ إن كثيراً من الدائنين محميون بالتأمين الذي تدعمه الحكومات. ويتم تحفيز مثل هذا التأمين بأهمية المؤسسات المالية كمصادر للائتمان في جانب الموجودات، وكمزودة لأموال في جانب المطلوبات. ونتيجة لذلك يكون للدائنين اهتمام قليل بجودة موجودات البنك، أو استراتيجيته. وهم يظهرون كأنما أقرضوا بنكاً، أما في الواقع، فإنهم أقرضوا الدولة.
الدرس الكبير المستفاد من الأزمة الحالية هو المدى الذي يمكن أن يمضي إليه هذا التأمين في حالة اعتبار المؤسسات أكبر، وأشد ارتباطاً، من أن تفشل. ونادراً ما تتعرض البنوك الكبرى للمشاكل على نحو منعزل. فهي في الغالب ترتكب أخطاءً متشابهة. وأكثر من ذلك أن فشل واحد منها يتلف الملاءة الحقيقية (أو المتوقعة) للبنوك الأخرى. وهكذا يتعرض الدائنون إلى أشد المخاطر في ظل أزمة تشمل النظام برمته. لكن أزمة النظام ككل تحدث تماماً حين تشعر الحكومات بأنها مجبرة على الإنقاذ، كما حدث في نهاية العام الماضي.
وفقاً لما جاء في أحدث تقرير عن الاستقرار المالي العالمي صادر عن صندوق النقد الدولي، الدعم المقدم من الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، والبنوك المركزية، وحكومات دول منطقة اليورو، بلغ 9000 مليار دولار، شكلت الضمانات 4500 مليار دولار منها. ووضعت الدولة ميزانيتها وراء البنوك. ولا يعني ذلك أن الدائنين لا يتحملون مخاطر على الإطلاق، غير أن مخاطرهم مخففة.
الحل المعروف تماماً هو إخضاع هذه المؤسسات المؤمنة إلى درجة متشددة من الضوابط. لكن جانباً هائلاً مما فعلته البنوك في أوائل هذا العقد ـ الأدوات المالية خارج الميزانية، والمشتقات، «ونظام مصرفية الظل» ـ كانت لإيجاد طريقة للالتفاف على الضوابط. والسؤال الواضح ما إذا كان الأمر «سيكون مختلفاً هذه المرة». على العقلاء من الناس الشك في ذلك. والواقع أن ذلك لابد أن يكون بعيد الاحتمال، خصوصا حين تكون رسملة البنوك صغيرة للغاية. وهذا هو وقت التقدم للإفلاس.
أوضح ميرفن كينج، محافظ بنك إنجلترا، في خطاب له الأسبوع الماضي لماذا يعتبر التوصل إلى نهج أفضل أمراً مهماً للغاية: «لن يتم قياس واحتساب تكاليف هذه الأزمة ببساطة من حيث أثرها على التمويل العام، وكذلك دمار الثروة، وعدد الوظائف المفقودة، بل يجب كذلك النظر إليها من خلال الثقة المفقودة بالقطاع المالي بين جوانب أخرى من الاقتصاد (...) و>كلمتي هي سندي> من الكلمات القديمة. و>كلمتي هي التزامات الديون المضمونة> لن يصبح تعبيراً رائجاً».
مثل هذه الأزمة ليست فقط نتيجة للاستجابة العقلانية للحوافز. فللحماقة والجهل دورهما. ولا أعتقد أن بالإمكان اجتثاث الفقاعات والأزمات من الرأسمالية. ومع ذلك، من الصعب الاعتقاد بأن المخاطر التي تقدم عليها المؤسسات الضخمة ليست لها علاقة بالحوافز. والحقيقة غير السارة هي أن حافز التصرف بهذه الطريقة الخطرة في أيامنا هذه أكبر، على أية حال، مما كان عليه قبل الأزمة.
لايمكن لإصلاح التنظيمات أن ينتهي بالحوافز، بل لابد له البدء بها. ولا يمكن إدارة النشاط الذي هو أكبر من أن يفشل لتحقيق مصالح حملة أسهمه، لأنه لم يعد جزءاً من السوق. إما أن يكون بالإمكان إغلاقه، وإما أن يدار بطريقة مختلفة. الأمر بهذه البساطة، وبهذه الوحشية.