جامعاتنا ومنهجية البحث العلمي
يمثل البحث العلمي حجر الزاوية في تقدم الدول ورقي المجتمعات, كما تعد حركة البحث العلمي ودعم مراكزه سمة بارزة لدول العالم المتقدمة, والمتأمل يجد أن ثمة علاقةٌ طردية بين الاهتمام بالبحث العلمي والإنفاق عليه وتقدم المجتمعات وازدهارها. والبحث العلمي ممارسة منهجية تحتاج إلى بيئة حاضنة كما تحتاج قبل ذلك إلى ثقافة مجتمعية تسعى إليه وتؤسس له، وكما أن البحث العلمي تخصص, فهو ثقافة وأسلوب تفكير تحتاج إليه التخصصات كلها دون استثناء يفترض أن يعمل المجتمع بكل مؤسساته في تنشئة الجيل عليها، وإن ممارسةً من قبيل الشعور بالمشكلة وتحديدها وتوليد البدائل وفحصها هي منهجية تفكير غائبة عن ممارستنا اليومية نتيجة غياب أدبيات البحث العلمي. وأنا أعترف أن مثل هذه الجهود تحتاج أيضاً إلى مؤسسات واستراتيجيات مؤطرة، ولا سيما في مجتمعاتٍ يُحتفى فيها بـ (لاعب الكرة) و(الخوي) و(شاعر المحاورة) أكثر من الباحثين والعلماء وأساتذة الجامعات.
ولتدركوا - أعزائي القراء - حجم الهوة ونسبة الفجوة العلمية بين دول العالم المتقدمة والأخرى النائمة! عفواً النامية! أضع بين أيديكم بعض الإحصاءات والأرقام لبيان حجم المشكلة, ذلك أن الأرقام لغة كمية تعتمد عليها البحوث العلمية، ولننظر إلى حجم البحث العلمي ـ على سبيل المثال - فقد بلغ مجموع الأوراق العلمية التي نُشرت في كل أنحاء العالم خلال السنوات الخمس الأخيرة وفقًا لمعهد المعلومات العلمية - كما يشير زويل - 3.5 مليون ورقة كان توزيعها بالنسب المئوية كما يلي: الاتحاد الأوروبي 37 في المائة, والولايات المتحدة 34 في المائة, ودول آسيا المحيط الهادئ 21 في المائة, الهند 2.2 في المائة, وإسرائيل 1.3 في المائة, أما مساهمة العالم العربي الذي يبلغ مجموع سكانه 280 مليون نسمة فهي تراوح بين صفر و0.3 في المائة وبمجموع 0.03 في المائة في معظم البلدان. وإذا قورنت هذه الأرقام بغيرها من دول أخرى, نجد أن وضعنا في مجال العلم والتكنولوجيا أصبح يماثل وضع أنجولا ونيكاراجوا والصومال!
بعد هذا كله لا بد من الإشارة إلى محورية دور الجامعات كمراكز بحثٍ وبيوت خبرة وأهمية اضطلاعها بدورها في حركة البحث العلمي وتنمية مهاراته ومنهجيته, ولا سيما أننا نشهد دعماً منقطع النظير من قبل القيادة الرشيدة للتعليم العالي في مملكتنا الحبيبة، ولعلي أعرض هنا نتائج دراسة حديثة قدمها الزميل الدكتور عيادة الشمري في أطروحته للدكتوراة في قسم التربية في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية التي كانت بعنوان ''تنمية المهارات البحثية لدى طلاب المرحلة الجامعية في المملكة العربية السعودية تصور مقترح في ضوء تجارب بعض الجامعات العالمية'', وهي دراسة قيّمة بذل فيها الباحث جهداً كبيراً يسنده في ذلك ويشرف عليه علم من أعلام البحث العلمي في العالم العربي وهو الدكتور صالح العساف المشرف على الرسالة. وبعيداً عن الإطراء دعوني أعرض لكم بعضا من نتائج هذه الأطروحة الذي يجلي جزءا من المشكلة فيما يتعلق بواقع المهارات البحثية (مهارات الوصول للمعلومات، مهارات تنفيذ خطوات البحث العلمي، ومهارات كتابة البحث العلمي) في الجامعات السعودية ومدى تغطية المناهج لها، إذ توصل الباحث إلى النتائج التالية:
- إن مهارات الوصول للمعلومات لا تغطى في 63 في المائة من تخصصات الجامعات السعودية فيما تغطى تغطية جزئية في 31 في المائة من التخصصات، بينما تغطى في 6 في المائة فقط من التخصصات، ويدل ذلك على أن مهارات الوصول إلى المعلومات لا تغطى تغطية كاملة في 94 في المائة من تخصصات الجامعات السعودية.
- إن مهارات تنفيذ خطوات البحث العلمي لا تغطى في 13 في المائة من تخصصات الجامعات السعودية، فيما تغطى تغطية جزئية في 38 في المائة من التخصصات، بينما تغطى في 49 في المائة منها، ويدل ذلك على أن مهارات تنفيذ خطوات البحث العلمي لا تغطى تغطية كاملة في 51 في المائة من تخصصات الجامعات السعودية.
- إن مهارات كتابة البحث العلمي لا تغطى في 28 في المائة من تخصصات الجامعات السعودية، فيما تغطى تغطية جزئية في 63 في المائة من التخصصات، بينما تغطى في 9 في المائة منها، ويدل ذلك على أن مهارات كتابة البحث العلمي لا تغطى تغطية كاملة في 91 في المائة من تخصصات الجامعات السعودية .
كما تم التوصل إلى أن تلك التغطية سواء أكانت تغطية كاملة أم تغطية جزئية تكون في معظمها خلال مستويات دراسية متباعدة، مما يشتت تغطية المهارات البحثية بين مقررات متفرقة، ويسهم في تكرار تغطية بعضها، وعدم تغطية بعضها الآخر، كما أن تأخر ورود بعضها يسهم في تأخر توظيف الطالب المهارات البحثية خلال دراسته الجامعية، ما يحد من تعلمه.
واتضح أن متوسط نسبة ما تخصصه الجامعات السعودية من ساعات لتغطية المهارات البحثية في خططها الدراسية بلغ 4.86 في المائة، وهي نسبة قليلة قياساً بمدى تغطيتها المهارات البحثية اللازمة لطالب المرحلة الجامعية.
والحقيقة أن البحث لم يكن سلبياً يتوقف عند وصف الواقع وبيان المشكلة ، بل زودنا الباحث بأبرز الأساليب المقترحة والتجارب العالمية لتنمية المهارات البحثية لدى طلاب المرحلة الجامعية, واستعرض جملةً من تجارب الجامعات العالمية مثل تجربة هارفارد، ستانفورد، كامبريدج، أكسفورد، أستراليا، وسنغافورة, وتوصل الباحث إلى أن تلك الجامعات تخصص ما متوسط نسبته 20 في المائة من ساعات خططها الدراسية لتنمية المهارات البحثية. ثم لخص الباحث وجهات نظر 323 عضو هيئة تدريس يمثلون 66 في المائة من مجتمع الدراسة في الجامعات السعودية حول التصور المقترح من حيث: (مدى أهميته، مدى إمكانية تطبيقه) وحصل التصور المقترح في مجال مدى أهميته على متوسط عام قدره 4.60 من 5 كما حصل في مجال مدى قابليته للتطبيق على متوسط عام قدره 2.67 في المائة من 3.
لقد شخص الباحث المشكلة وحدد أبعادها، ثم بين وضع الجامعات المتقدمة واختتم الدراسة بتصور لمعالجة المشكلة. وفي تقديري هذه الدراسة صرخة غيور في واد مترامي الأطراف لكن لا بد أن صداها سيجلجل في جنبات الوادي ليسمعها كل مسؤولٍ يحمل بين جنبيه قلباً خافقاً بحب وطنه وغيرته على أمته، نعم هذا أملي وهذا ظني.
أخيراً هنيئاً لجامعة حائل بباحث واعد مثل الدكتور عيادة الشمري وهنيئاً لنا بمثل هذه الدراسة، وبمثل هذه المنهجية في تنمية مهارات البحث العلمي.
خاطرة :
في مدخل الحمراء كان لقاؤنا..
ما أطيب اللقيا بلا ميعادِ
عينان سوداوان.. في حجريهما
تتوالد الأبعاد من أبعادِ
وجه دمشقي .. رأيت خلاله
أجفان بلقيس .. وجيد سعاد