محافظو البنوك المركزية من حقهم أن يرفعوا أصواتهم
أليس من شخص يخلصني من هذا المصرفي المزعج المثير للقلاقل؟ ربما يكون هذا بالضبط لسان حال رئيس الوزراء البريطاني، جوردون براون، حين يأتيه نبأ تعليقٍ حرجٍ آخر من محافظ بنك إنجلترا. بالنسبة لهنري الثاني، ملك إنجلترا في القرن الثاني عشر، كان الشخص المثير للمشاكل هو توماس بيكيت، الذي اختاره بنفسه ليكون أسقف كانتربري. وبالنسبة لرئيس الوزراء براون الشخص المثير للمشاكل هو ميرفن كينج، الذي أعاد براون بنفسه تعيينه في منصب لا يمكن أن يعزله عنه، تماماً مثل منصب أسقف كانتربري. أوجه التشابه بين كينج وبيكيت واضحة، وهي أن مسؤولي البنك المركزي هم الكرادلة في الطائفة الدينية الجديدة التي تعرف باسم الاستقرار النقدي.
كان مصير بيكيت هو الاغتيال على أيدي مجموعة من القتلة المأجورين. بطبيعة الحال كينح لن يلاقي هذا المصير. لكن هناك ملكاً آخر حكم بريطانيا (في القرن السادس عشر، وهو هنري الثامن)، استطاع تركيع الكنيسة وأساقفتها. فهل يمكن أن يلاقي البنك المركزي المصير نفسه؟
الواقع أن إحدى نتائج هذه الأزمة هي أن يتعرض استقلال البنك المركزي للخطر، ليس فقط في بريطانيا. ويعود ذلك إلى ثلاثة أسباب. الأول، حين تكون أسعار الفائدة الرسمية قريبة من الصفر (كما هي الحال الآن)، تختفي الحدود الفاصلة بين السياسة النقدية وسياسة المالية العامة. الثاني، أن الحكومات تعاني الآن من عجز هائل في المالية العامة، خصوصاً في بريطانيا والولايات المتحدة، وهو أمر من شأنه تهديد الاستقرار النقدي. الثالث، أن المسوؤلين يرغبون في تحويل اللوم في وقوع الكارثة وإلقائه على جهات أخرى.
والحقيقة أن كينج ليس المصرفي المركزي الوحيد الذي يتعرض للهجوم الآن. ذلك أن أعضاء الكونجرس الأمريكي شنوا هجوماً كاسحاً لا رحمة فيه على بن برنانكي، رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي، حول دوره في عملية استحواذ بانك أوف أمريكا على بنك ميريل لنتش. الأمر المذهل هو أن مستشارة ألمانيا، أنجيلا ميركل، هاجمت بصورة مباشرة السياسات غير التقليدية، بما في ذلك السياسات التي يتبعها البنك المركزي الأوروبي.
الأوقات العصيبة تُنتِج مصرفيين مركزيين يعملون على إثارة المشاكل وتُنتِج قلاقل على رأس البنوك المركزية. السؤال المهم، خصوصاً في بريطانيا، حيث يتسم استقلال البنك المركزي بهشاشة كبيرة، وحيث السياسة في غاية الاضطراب والأوقات عصيبة تماماً، يدور حول طبيعة الإجراءات التي ينبغي أن يتخذها مسؤولو البنوك المركزية. وجهة نظري هي أن عليهم توخى الحذر، لكن ليس في غلالة من الصمت.
أثار كينج أربع نقاط، جميعها تسجل انتقادات على الحكومة. الأولى، أنه خلافاً لوجهات نظر وزارة المالية «إذا كان يُنظَر إلى البنوك على أنها تبلغ من الكبر حداً يجعل من غير الممكن السماح بفشلها، فإن حجمها في الحالة هذه يزيد عن الحد المقبول». الثانية، أن بنك إنجلترا يتمتع «بسلطة نظامية جديدة على الاستقرار المالي (...) لكن من غير الواضح تماماً كيف سيتمكن البنك من بسط سلطانه النظامي الجديد ومسؤوليته، إذا كان كل ما نستطيع فعله هو إلقاء المواعظ أو تنظيم مناسبات الدفن». الثالثة، أنه لم يُستشَر حول الورقة البيضاء التي ستصدرها الحكومة قريباً حول الخدمات المالية. الرابعة والأخيرة، كما أخبر لجنة الخزانة في مجلس العموم البريطاني: «إذا كان للاقتصاد أن يتعافى وفق المسار الذي تفترضه توقعات الميزانية حول الناتج المحلي الإجمالي، فإنني أرى والحالة هذه أن الفترة التي نحتاج فيها إلى تقليص العجز في الميزانية يرجح لها أن تكون أسرع مما تنطوي عليه ضمناً توقعات الميزانية».
لنبدأ بسؤال بسيط: هل المحافظ على حق من حيث الموضوع؟ الأجوبة على الأسئلة الأربعة هي: نعم، ونعم، ونعم، ونعم. في حين أن الحجم ليس الاعتبار الوحيد، لا بد أن الشركات الخاصة لا تعمل بحرية إذا لم تكن خاضعة للخوف من الإفلاس. بالمثل، ليس فقط من الضروري للسلطة أن تسير جنباً إلى جنب مع المسؤولية، وإنما يعتبر بنك إنجلترا، وهو الهيئة التي يقع تركيزها على الاقتصاد البريطاني ككل، أفضل جهاز حكومي يتولى فرض الضوابط «الحصيفة ضمن نطاق الاقتصاد الكلي» على النظام المالي.
مرة أخرى، إن صح أن البنك لم يُستشَر بخصوص الورقة البيضاء التي ستصدر قريباً، يبدو أن من المذهل والعصي على التصديق أن تُقْدِم الحكومة على ذلك دون استشارة محافظ البنك.
لاحظ أن براون وأولئك المقربين منه تماماً هم فقط الذين ينكرون الأمر البدهي، وهو أن الوضع المالي المتضمن عجزا نسبته 14 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2010، حسب توقعات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، لا يمكن استدامته على الإطلاق. وبالتالي من المحتم أن تقرر الحكومة إجراء تخفيضات كبيرة في الإنفاق وفرض زيادات كبيرة على الضرائب، نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي.
موضوع الخلاف إذن يدور حول ما إذا كان من شأن محافظ البنك المركزي أن يعلن عن آرائه على الملأ، خصوصاً في منطقة من هذا القبيل حساسة من الناحية السياسية. ألا يجدر به أن يكون «مقتصداً في الإعلان عن الحقيقة»، مقتفياً أثر ألان جرينسبان، الرئيس السابق للاحتياطي الفيدرالي، الذي كان بارعاً في الغموض المدروس؟ في الأوقات الطبيعية العادية يكون الجواب بالإيجاب. لكن في ظل هذه الظروف العصيبة السائدة هذه الأيام، من المؤكد أن من الأفضل الإعلان عن الخلافات الكبيرة بين الساسة بدلاً من دفنها في التراب.
صحيح أن تسييس البنك المركزي المستقل أمر ينطوي على خطورة كبيرة. فالاستقلال المحدود الذي لا يزال يتمتع به البنك ربما يتعرض للأذى، أو ربما حتى يُسحب من البنك. فضلاً عن ذلك، في وقت يكون فيه من الضروري تماماً التعاون بين السلطات، فإن ظهور الفرقة والاختلاف هو بحد ذاته أمر يقوض الثقة. مع ذلك، وعلى الرغم من هذه الاعتبارات القوية، المسؤول الحكومي الذي يدرك ويتحمل مسؤوليته يتعين عليه أن يقرر ما إذا كان موضوع معين يبلغ من الأهمية حداً بحيث أن إذاعة هذا الموضوع على الملأ تصبح هي الأمر الوحيد الذي يجب فعله لمصلحة الوطن.
في الحالة المتعلقة بوضع المالية العامة في بريطانيا على الأقل، هذا بالتأكيد هو الأمر السليم الذي يجب القيام به. نحن لا نتحدث هنا عن مقادير متواضعة في العجز، وإنما عن هوة تزداد اتساعاً، وهي هوة يمكن بالتأكيد أن تضر بالاستقرار النقدي وتعرضه للخطر. إضافة إلى ذلك لم تعد بريطانيا تتمتع بقواعد أو إجراءات موثوقة ولها صدقية في المالية العامة، في الوقت الذي ينفي فيه رئيس الـوزراء المضامين المرتبة على التوقعات الخاصة بالمالية العامة التي قدمتها حكومته نفسها.
بالنظر إلى هذا السلوك غير المسؤول، يجب أن يُسمَح لمحافظ البنك المركزي بالإعلان عن موقفه. ربما يشعر رئيس الوزراء بكره شديد لهذا المحافظ المثير للمشاكل. لكن البلد ليس ملكا لأي سياسي. يتعين على محافظي البنوك المركزية أن يتوخوا الحذر دائماً. لكن هذا لا يعني أنه لا ينبغي لهم الإعلان عن رأيهم أبداً. هذه الأيام من واجبوا أن يقوموا بذلك.