إشادات مستحقة وشهادات منصفة
وشهد شاهد من أهلهم، هذا ما يمكن أن يقال عن شهادات الإشادة بالبرنامج السعودي لإعادة تأهيل معتقلي جوانتانامو وغيره، التي جاءت على لسان وزارتي الدفاع والعدل الأمريكيتين في جلسة استماع في الكونجرس أخيرا، فعلى الرغم من إيجابية مثل هذه الشهادات التي تدحض أخيرا اتهامات وافتراءات أمريكية كثيرا ما وجهت لبلدنا، إلا أن الأهم منها هو أن تعيد الإدارة الأمريكية الحالية ويعيد الكونجرس الأمريكي تقييم الحالة الإرهابية عموما، بحيث يكون لدى واشنطن في ظل هذا التغير الكبير بفوز الديمقراطيين، الجرأة على تحمل المسؤولية والاعتراف بما ارتكب من أخطاء أدت وساعدت على توسع دائرة الإرهاب، لا أن يكتفى بتوزيع شهادات الإشادة بجهود الآخرين في حماية أنفسهم من نتائج أخطاء أمريكية، فنحن والعالم كله نطالب الولايات المتحدة بأن تعترف وتقر بتلك المسؤولية، وأن سياسات الإدارات الأمريكية السابقة، وخاصة إدارة بوش الابن، كانت وما زالت هي المتسبب الأول والفاعل في نشوء ظاهرة الإرهاب وتناميها، وأشدها سلبية هو حين تم ربط الإرهاب بكل أسف بالدين الإسلامي، فتلك السياسات الرعناء التي وصلت إلى قمة رعونتها إبان سيطرة تيار المحافظين الجدد المتعجرف على الإدارة الأمريكية طوال فترتي الرئيس السابق بوش، هي التي أدخلت العالم في أتون حرب إرهابية ضربت أمن واستقرار دول عديدة في آسيا وإفريقيا وأوروبا، ومنها بلادنا التي تعرضت لنصيب وافر من هذه الحرب العمياء، إلا أنه تم مواجهتها بالعقل والحزم معا فكريا وأمنيا ونجحنا فيها، وبما أدى أخيرا إلى أن يُعترف بجدوى وإيجابية هذه الجهود ونجاحها من قبل جهات أمريكية عليا ومهمة طالما اتهمتنا سابقا بدعم الإرهاب والإرهابيين، ودفعنا ثمنا مقابل حرصنا على علاقات جيدة مع واشنطن حتى في ظل اتهامات أمريكية عديدة لنا ثبت أخيرا زيفها وبطلانها وباعترافهم.
المملكة لم تحارب وتواجه الإرهاب خدمة للولايات المتحدة ولا انضواء تحت لواء ما سمته بحربها العالمية على الإرهاب، بل كانت تدافع عن أمنها الذي هُدد فعلا على مدى سنوات، وجاءت هذه المحاربة والمواجهة بأساليب نابعة من تعاليم ديننا الإسلامي، ومنها أسلوب المناصحة والتأهيل والمواجهة الفكرية، وهي أحد أهم جوانب البرنامج السعودي والتي عبر عنها سمو الأمير نايف بن عبد العزيز النائب الثاني ووزير الداخلية بمقولة: إن الفكر لا يقارع إلا بالفكر. وهذا صحيح، وليس بالعنف الأعمى وفتح المعتقلات وحشر الناس فيها ومعاملتهم بطريقة غير إنسانية ولا حتى بشرية كمعتقلات جوانتانامو وأبو غريب وغيرهما من معتقلات أفغانستان وسجون المخابرات الأمريكية السرية، وممارسة شتى وسائل وأساليب التعذيب الجسدي والمعنوي ومنه الإيذاء الديني، فهذا الأسلوب العنيف والانتقامي البشع الذي مورس في المعتقلات الأمريكية بقرار وموافقة كبار المسؤولين في إدارة بوش من نائب الرئيس السابق ديك تشيني، مرورا بوزير الدفاع السابق رامسفيلد وكلاهما صنف كمجرم حرب عطفا على دورهما الفعال في إدارة بوش، أدى إلى زيادة في مشاعر الكراهية للولايات المتحدة في أوساط الرأي العام العالمي، وتنامي روح عدائية لدى الشعوب التي تضررت مباشرة من الوحشية الأمريكية، ودون أن يعالج ذلك الأسلوب الظاهرة الإرهابية، فيما نجحت، من الجانب الآخر، المملكة في احتواء آثار هذه الظاهرة الإرهابية من خلال برنامج المناصحة والتأهيل، الذي حظي بإشادة جهات دولية مهمة كمجلس الأمن في عام 2007، وعديد من المنظمات الدولية، التي اعتبرت البرنامج السعودي من أنجح وأنجع برامج وجهود معالجة آثار الإرهاب، كونه اعتمد على مقارعة الفكر الضال بالفكر السوي وبروح إسلامية إنسانية لا عنف فيها ولا تعد على كرامة الإنسان حتى لو كان ممن انساق خلف الفكر الإرهابي، وهو ما أدى إلى تحقيق إنجازات كبيرة أعيد فيها الصواب للكثرة ممن ضُللوا، وعولجت من خلاله الآثار النفسية نتيجة أساليب التعذيب والإهانات المعنوية التي تعرض لها كل من قادته الأقدار إلى معتقل مثل جوانتانامو.
وفي هذه الحقبة الجديدة التي دخلتها الولايات المتحدة بعد حقبة تعاظم فيها صوت ودور تيار التشدد والتطرف بما فيه الديني، برز بوضوح وقوة وكرد فعل على ما جلبته الحقبة السابقة من كوارث على الولايات المتحدة والعالم، صوت جديد يدعو ويطالب بالتغيير، ولهذا اكتسح الديمقراطيون الانتخابات التشريعية والرئاسية بهذا الشعار، الذي عبر عنه الرئيس أوباما بانتهاج سياسة عقلانية تصالحية وهادئة، ولكن هذا لا يكفي، فالمطلوب من الإدارة الجديدة ترجمة التغيير عمليا بانتهاج سياسات واتخاذ مواقف جديدة تعكس حقيقة هذا التغيير، ويبدأ ذلك من الاعتراف بالأخطاء والتجاوزات التي حدثت وبما يخالف الدستور والقيم الأمريكية، وأن تحاسب عليها، فالعبارات المنمقة وحدها لن تؤدي إلى نتيجة ما لم يحس العالم فعلا بأن الولايات المتحدة صادقة وجادة في تغيير الصورة الكريهة التي أوجدتها سياسات ومواقف الإدارة السابقة سيئة السمعة.
لا شك أن البرنامج السعودي لإعادة تأهيل معتقلي جوانتانامو وغيرهم من السعوديين من شتى أنحاء العالم ممن تورط في أعمال إرهابية، حقق نجاحات كبيرة، واستطاع أن يعالج الآثار السلبية الناتجة عن أساليب التحقيقات الوحشية والتعذيب والتعامل العنيف بدنيا ومعنويا في ذلك المعتقل الرهيب وفي غيره، وهو ما يستحق فعلا كل إشادة وتقدير، وأكثر ما يوجب الشهادة له بصفته أفضل برنامج تأهيل ومعالجة في مجاله، هو أنه تعامل مع العائدين والمستعادين بروح إنسانية رحيمة تهدف إلى التصحيح والمعالجة وليس الانتقام وحب التعذيب وساديته كما عرفناه في سجن مثل معتقل أبو غريب في العراق.