فشل مبدأ «المناعة ضد الانهيار»

حتماً ستتشوه عمليات السوق الحرة في حال بقيت مؤسساتها المركزية منيعة ضد تشريعاتها الموضوعة. هذا ما حدث بالضبط مع ظهور البنوك الكبرى التي اعتبرت «منيعة ضد الانهيار». بعد انهيار ليمان براذرز بشكل خاص، اختفت نهائياً رغبة السلطات المالية في احتواء بنك رئيسي آخر من الانهيار. على الرغم من ذلك، تجبر الأزمة الراهنة أعداداً متزايدة من الجهات التنظيمية على إعادة النظر في موقفها نظراً لحجم المخاطر النظامية، والتكلفة المالية التي قد تأتي نتيجة الانحراف عن التشريعات الطبيعية للسوق. وينبغي أن يفسر ذلك في النهاية على أنه تخلٍ تدريجي عن النظام المصرفي الضخم خلال السنوات القليلة الماضية. وبينما تتزايد الحاجة إلى التغيير، قد يسير التقدم على نحو بطيء، بسبب حتمية تزامن الإصلاحات التنظيمية مع جهود إنعاش الاقتصاد.
وثمة عدة عوامل تشير إلى إعادة هيكلة وشيكة لبنوك كبرى، ولعل أهم هذه العوامل هو رغبة المنظمين في اتخاذ خطوات ملموسة. ويسجل لميرفن كينج، محافظ بنك إنجلترا، قوله «إذا كان يُعتقد أن فشل البنوك كبير،... فهذا يعني أنه كبير جداً». وخلال الشهر الماضي، كشف بنك سويسرا الوطني، البنك المركزي السويسري، النقاب عن خططه الواضحة لحل هذه المشكلة. وتأتي هذه الخطوة الحذرة لسويسرا، لكونها في المقام الأول، رغم صغر مساحتها، فهي تعد مقراً رئيساً لمجموعتين مصرفيتين عالميتين. وقد بلغ مجموع الأصول الموحدة لدى البنوك السويسرية بنهاية عام 2007م تسعة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي للدولة. علاوة على ذلك، تعتمد سويسرا في ازدهارها على سمعتها المرموقة كمركز مالي عالي الجودة، وبالتالي فإن فشل أي مؤسسة رئيسية فيها سيؤثر بشكل بالغ في تلك السمعة. كذلك صدرت تصريحات مماثلة من بروكسل، حيث دعا مفوض المنافسة للاتحاد الأوروبي، نيلي كرويس، إلى إعادة هيكلة البنوك البريطانية الكبرى، والتي أنقذت الحكومة اثنين منها. تلا ذلك خطوات لإجبار البنوك الألمانية التي تلقت مساعدات حكومية على تقليص عملياتها.
جميع هذه الخطوات ستؤدي إلى مزيد من الاعتراف بأن حدة الأزمة الراهنة ستفرض على المشرعين ابتكار وسائل جديدة لتفادي الأخطاء السابقة والارتقاء بحلول إنقاذ البنوك المتعثرة إلى ما هو أبعد من مجرد ضخ للمال مصحوب بحلول جزئية بهدف كسب الوقت حتى تستعيد عافيتها مع نمو الانتعاش الاقتصادي مرة أخرى. التناقضات التي نجمت عن سرعة اندماج البنوك خلال العقد الماضي تجسدت في ظهور بنوك كبرى قد يفرض فشلها تكاليف اقتصادية غير مقبولة سواء في البلدان التي تعمل فيها أو على الصعيد العالمي، إن عدم القدرة على حمايتها من الفشل سيكون مكلفاُ وخاصة مع قصور الحلول التي تم اتخاذها حتى الآن في حل المشاكل الهيكلية الأساسية للنظام المصرفي. وبينما تستمر البنوك في العمل، فإن الدور الحيوي لكل منها كوسيط اقتصادي سيكون محدوداً. وتزداد الرؤية اليابانية «للبنوك المتعثرة» شيوعاً، حيث يستخدم البنك موجوداته لاستكمال رأس المال بدلاً من الإقراض.
وتعود جذور الإشكالات الراهنة إلى رفع القيود وإلى ظاهرة العولمة على مدى العقدين الماضيين. ومن بين عديد من الأسباب، سمح رفع القيود وانتشار العولمة للبنوك بتوسيع عملياتها بشكل كبير، سواء جغرافياً أو في مجال الخدمات التي تتعدى الإيداع والإقراض. وقد اقتصرت عمليات البنوك سابقاً ضمن حدودها المحلية – سواء الولاية، المحافظة، أو الدولة بشكل عام. في الوقت نفسه تميزت البنوك التجارية بشكل كبير عن البنوك والاستثمار والوساطة سواء من حيث التنظيم الرسمي أو الحكم العرفي، ويعود السبب الرئيسي في هذا إلى إدراك المخاطر التي تنطوي في طبيعة كلتا الصناعتين. وبالرغم من ذلك ففي أوائل التسعينيات، أصبحت المصرفية العالمية هي النموذج والمعيار الذي يقاس عليه، يدعمها الانكشاف المتزايد للبنوك على العالم. وبالنتيجة، باتت البنوك العالمية الرائدة تمتلك حصصاً غير مسبوقة في مختلف الأسواق. وقد لوحظ هذا التطور على وجه الخصوص في أوروبا، حيث يصل إجمالي الأصول الموحدة للبنوك في دولها الكبرى من ثلاثة إلى خمسة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي لتلك الدول. على النقيض من ذلك، تستقر هذه النسبة دون 100 في المائة في الولايات المتحدة الأمريكية. وقد بات نفوذ القطاع المالي أكثر انتشاراً حول العالم، حيث يصل متوسط المستويات من 35 إلى 1 في الولايات المتحدة الأمريكية و45 إلى 1 في أوروبا.
تلك التطورات جلبت عديدا من الفوائد – تنافسا أكبر ونقل المعايير والخبرات وحفزت تطبيق سياسات التوسع لخفض التكاليف التشغيلية. ورغم ذلك، فشل تنظيم المؤسسات المالية كلياً في مواكبة تطور السوق. علاوة على ذلك، سمح لنمو المجموعات المصرفية في معظم الأحوال الوصول إلى نقطة لا يصلح عندها تطبيق الحلول التنظيمية الموحدة خشية أي ضرر محتمل على صعيد الاقتصاد الكلي.
تفاقمت هذه الإشكالات بسبب السياسات النقدية غير المتناسقة وأصبحت مبادئ البنوك المركزية بعدم اتخاذ أي خطوة لمنع أو احتواء فقاعات أسعار الأصول. بالأحرى، يجب على السياسة النقدية التعامل مع عواقب انفجار الفقاعات. وكنتيجة لذلك، تبنت السياسات النقدية مبادئ شبيهة بالمخاطر المعنوية، وقد اقتصر التدخل إبان أيام الطفرة على تشديد السياسة النقدية فقط في حال أظهر مؤشر أسعار المواد الاستهلاكية علامات تشير إلى تجاوز معدل التضخم الرسمي (أو غير الرسمي في بعض الحالات كما في المعدل الفيدرالي). على النقيض من ذلك، لجأ صناع القرار خلال حركات التصحيح الاقتصادي إلى ضوابط أكثر حزماً للحد من ظاهرة الانهيار، وقد شجعت هذه السياسة، في جوهرها، على تقوية النفوذ المالي وتقبل المخاطر أثناء فترات الازدهار، بينما تقدم تأميناً موثوقاً للمخاطرة عند الأزمات، والأصعب من ذلك، انتقال هذه الممارسة إلى مرحلة الإدمان. فالتردد في التخلي عن الحافز الذي يتجسد في مبدأ «ما زال الوقت مبكراً» جعل الأطراف تتمسك به على الدوام عقب التراجع الذي حدث في عامي 2000/ 2001م. وقد لوحظ تماشي العلاج الذي قدم للمؤسسات الفردية مع الموقف النقدي بشكل كلي. إن ما تم تنفيذه لكبح النمو خلال فترات التوسع حيث تم اللجوء إلى خطط إنقاذ للاقتصاد من حالة التراجع. وفي نفس الوقت، تمت حماية مصالح المودعين بواسطة التأمين الحكومي.
وبينما هناك إدراك لوجود قصور في استدامة النظام القديم على نحو واسع، هنالك القليل من الإجماع حول كيفية المضي قدماً، على الأقل بسبب أولوية الخطوات التحفيزية في الوقت الراهن. لكن، هناك رغبة واضحة للمزيد من التعاون الدولي الفعال، ستتركز مبادرات الجهات التنظيمية بشكل كبير على تقليص حجم المؤسسات الكبرى وتحفيز البنوك على إعداد نفسها على نحو أفضل لمواجهة المخاطر وتقلبات الدورات الاقتصادية.
وثمة خطوة مهمة يمكن تنفيذها هنا، ألا وهي إجبار الشركات على العمل بمزيد من رؤوس الأموال. وهناك إجماع لصالح خطط تهدف إلى تعديل متطلبات رأس المال بطريقة تجعله يتماشى مع حجم ونطاق أعمال كل شركة. فعلى سبيل المثال، قام بنك إسبانيا المركزي بتبني نموذج مواجهة التقلبات التنظيمية، مما قد يعزز ازدهار ذلك النظام. وقد تلقت إسبانيا اهتماماً متزايداً لحقيقة أن بنوكها، وبسبب الانهيار الكبير في عام 1970م، تتمتع برؤوس أموال أفضل وملاءة مالية أقل من بنوك الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة. وقد جعل البنك المركزي الإسباني الأمر أكثر صعوبة للبنوك لخلق أدوات خارج الموازنة العامة مثل شركات الاستثمار المنظمة SIVs، المشهد نفسه ينطبق في كندا، حيث يبلغ متوسط الملاءات المالية للبنوك المحلية نصف نظيره في الولايات المتحدة الأمريكية.
التحدي المهم الذي يواجه الجهات التنظيمية هو ضمان ابتكارات أكثر شفافية وتناسقاً تستوعب بشكل أفضل أهمية هذه الجهات وتجعل قراراتها غير قابلة للرفض أو التخطي. وفي حال لم يحدث ذلك، ستكون هنالك مخاطر محدقة بفعالية مسكنات الألم قصيرة الأجل تمنعها من تنفيذ الإصلاح الحقيقي وتحقيق الانتعاش المستدام المرتقب في حال تخطى الاقتصاد المرحلة الأسوأ من التراجع.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي