لماذا تتحول مشكلاتنا إلى أزمات دائمة ..؟
نشوء المشكلات المختلفة في مسيرة المجتمعات أمر طبيعي في ظل نظام حياة متغير بسبب عملية تطور عادية وطبيعية، وخلال هذه العملية تجد أشياء جديدة تتطلب أوضاعا متلائمة معها، فحياة المجتمعات ومنها مجتمعنا لم تعد كالسابق هادئة خاملة لا حراك فيها فلا تطرأ عليها متغيرات وإن حدثت تحدث ببطء شديد وبحدود، بل إن حركة التغير باتت سريعة ومتلاحقة، ولهذا فالتطور وما يصاحبه من تغير له إفرازات سريعة تعتبر معوقات بسبب عوامل جديدة مثل زيادة عدد السكان وما تفرضه مستجدات التطور من احتياجات أخرى، وهذه الاحتياجات تتطلب توافر حلول لها تواكب عملية النمو والتطور وإلا سوف تعاني هذه المجتمعات من الترهل وتستعيد حالة الخمول ولكن بصورة أكثر سلبية وضررا. هنا وفي مثل هذه الحالات تفرق المجتمعات المتطورة فكرا وسلوكا ونمط حياة وتلك المجتمعات التي يطلق عليها المتخلفة، والفرق هو أن المجتمعات المتطورة تستطيع إيجاد الحلول الفاعلة لمشكلاتها المستجدة، وقادرة على تطوير أدائها وفق متطلبات كل مرحلة، والأهم من ذلك كله أن لديها رؤية مستقبلية، بمعنى أنها تنظر للبعيد بالقدر الذي تنظر فيه لوقتها الراهن، بينما نجد أن المجتمعات المتخلفة بقدر ما يزداد تطورها بقدر ما تزداد مشكلاتها بل وتتعقد لغياب الخطط المستقبلية، ولهذا تزداد الفجوة الحضارية يوما بعد يوم ما بين العالم الأول والعالمين الثاني والثالث.
في هذا السياق أين موقعنا..؟، هل نحن ضمن المجتمعات المتطورة أم تلك المتخلفة وفق هذا التعريف أو هذا المفهوم للتطور والتخلف..؟
خلال العقود الأربعة الماضية، مثلا، شهدت بلادنا نقلات حضارية متتابعة وواسعة، ومعها نشأت مشكلات نتيجة للتغير الذي أحدثته، ويلاحظ هنا أنه على الرغم من أن هذه المشكلات تعتبر من النتائج المتوقعة المصاحبة لأي حالة تغير ناتجة هي الأخرى عن عملية تطور، إلا أنها تحولت من مجرد مشكلات طبيعية قابلة للحل إلى أزمات مستمرة ومستوطنة، وما زاد من أثرها السلبي أنها بدلا من أن تجد حلولا أخذت تتضخم حتى بات حلها صعبا ومكلفا.
خذوا مثلا مشكلات مثل البطالة والسكن وضعف الخدمات العامة وتدني التعليم الجامعي والعام وعدم كفاية وكفاءة العلاج الطبي وتنامي مستوى الفقر وغيرها من مشكلات بتنا نعاني منها، فالملاحظ على مثل هذه المشكلات أنها نتيجة لتغير فشلنا في قراءته بطريقة صحيحة ورؤية مستقبلية، فالبطالة على سبيل المثال نشأت بسبب أولا ارتفاع نسبة السكان السريع خلال العقود الماضية، وثانيا فشلنا في توقع نتائج هذه الزيادة والاحتياط لها بوضع خطط عملية تمكن من استيعابها من خلال برامج تدريب وتأهيل مسبقة، ولذا يلاحظ أن هذه المشكلات تزداد حدة وتتضخم سنة بعد أخرى لتصبح أزمة مستديمة، فمن يجادل في أن مثل هذه المشكلات عمرها بعمر جيل كامل..؟
فالأزمة في استيعاب الجامعات مثلا مر عليها ما يزيد على عقد من الزمن وكذا البطالة وصعوبة العلاج الصحي الميسر وغير ذلك من معاناة الناس من مثل هذه المشكلات.
السبب الرئيس والفاعل في توطن هذه المشكلات وتناميها بمرور الزمن وتحولها من مجرد مشكلات عادية ومتوقعة، إلى أزمات تولد معاناة واسعة، هو في غياب الحلول العملية والعلمية القادرة على احتوائها ومعالجتها حتى قبل أن تنشأ، والسبب الآخر والمهم أيضا أن كل الجهود التي تبذل لحلها تفتقد المنهجية العلمية، وتقتصر على جهود فردية عاجلة ثانوية تعالج الهوامش دون الجوهر، ولهذا السبب فشلنا ونفشل في حلولنا لمعظم مشكلاتنا وأزماتنا.
كل مشكلة ولها حل، أو على أقل تقدير تحاصر آثارها حتى لا تصبح أزمة، والحلول لن تأتي من اجتهادات فردية بل من عمل علمي جماعي ودراسة متأنية للمشكلة، فالمشكلة كما تعرف هي «حالة من التباين والاختلاف بين واقع حالي أو مستقبلي, وعادة ما تكون هناك عقبات بين الواقع والمستهدف»، وهذه العقبات هي بذور نشوء المشكلات، وتركها تنمو هو ما سيحولها إلى أزمات، كما هو حادث لدينا، ولذا فلا يمكن التصدي للمشكلات الكبرى التي تعترض مسيرة أي مجتمع متطور ومتجدد إلا من خلال الطرق العلمية الفاعلة، وليس بأساليب وطرق الحلول والوقتية أو الجزئية، ووسائل حل المشكلات وطرقها لها نظريات عديدة وسبل كثيرة وهنالك تجارب حقيقية يمكن الاستفادة منها ودراستها، ولعل أول السبل الصحيحة لمواجهة ومعالجة المشكلات والمعوقات التي تعترض مسيرة أي مجتمع متطور تكمن في جمع البيانات والمعلومات المسببة لوجود ونشوء المشكلة، وهذه عملية مهمة وأساسية من أجل التعرف عليها بعمق لمعرفة عناصرها الأساسية وهي: أين ومتى وكيف ولماذا ولمن تحدث؟ فمن دون معرفة عناصر المشكلة ودراستها، لا يمكن حل أي مشكلة مهما صغرت.
إن غياب مثل هذه الرؤية العلمية والعملية هي التي أدت إلى نشوء مشكلاتنا التي نعانيها اليوم وتحولها مع الوقت إلى أزمات مستديمة، وما يستغرب له بالفعل هو أن هذه الرؤية يفترض أنها ليست غائبة عن جل بل كل من يتولون المواقع التنفيذية المسؤولة عن مصالح الناس والبلد اليوم، فمعظمهم من حاملي المؤهلات العليا من جامعات غربية، وكان مفترضا أن نجد لديهم حلولا، لا تفاقم للمشكلات وتراكمها سنة بعد أخرى، فهل العيب في المؤهلات أم القدرات أم في شيء آخر..؟