.. ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله

عندما أعلن خبر المحاولة الفاشلة لاغتيال الأمير محمد بن نايف مساعد سمو وزير الداخلية للشؤون الأمنية, وأن هناك من قام بتفجير نفسه بعبوة ناسفة قاتلة نجا منها الأمير ومن كان معه وقتل فيها ذلك الشخص وحده, كان أول ما أدهشني أنها تحدث في شهر رمضان المبارك, وتبع دهشتي سؤال عن نوع وصنف ذلك الدافع الذي دفع ذلك الشخص للسعي لارتكاب عملية قتل في ليلة من ليالي رمضان المبارك دون أن يخامره إحساس بحرمة هذا الشهر الكريم.
للإجابة عن مثل هذا السؤال دعونا نفترض مجرد افتراضات منطقية وإن كانت محصلتها مخالفة لأي منطق, لنفترض أن ذلك الشخص, المفترض أنه ملتزم دينيا ولحد التشدد, كان صائما مع بقية المسلمين, ويوم الخميس تحديدا أفطر باسم الله وصلي المغرب, وبعد ذلك صلي العشاء والتراويح, أي أدى كافة واجبات يوم صيام الدين الذي يحض المؤمنين به على عدم ارتكاب الذنوب ومنها الكبائر ومنها تحديدا قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ... الآية) صدق الله العظيم, ثم بعد ذلك توجه لمنزل الأمير مدعيا بالمخادعة أنه قادم ليسلم نفسه له شخصيا, ولكن حين دخل على الأمير قام بتفجير العبوة الناسفة التي كان يخبئها كما قيل في جهاز الهاتف الجوال بغرض واحد وهو قتل نفس وأنفس مما حرم الله قتلها إلا بالحق وفي شهر من الأشهر الفضيلة, ولم يقتل إلا نفسه وحدها في نهاية الأمر, لنفترض أن ذلك التسلسل قد حدث, وهنا نصل للنتائج أو المحصلة غير المنطقية, وهي كيف تتفق تلك الأعمال الإيمانية مع إضمار نية القتل في شهر رمضان المبارك وليلة من ليالي جمعة مباركة, لمن أمنه وأستأمنه ووافق على استقباله كإنسان عادي جاء كي يعلن توبته ورجوعه للحق..!؟
الحقيقة أنه يصعب بل يستحيل الربط بين العملين أي الصوم والصلاة ونية القتل, وإذا كنا مازلنا نفترض أنه صام وصلى ولم يكن منشغلا عن ذلك كله بالإعداد لارتكاب فعلته وتجهيز أداة التفجير والقتل ووجد من يفتيه بأن لا عليه صوم وصلاة على اعتبار أنه ذاهب للاستشهاد في سبيل الله ..!!, أفليس حريا بمن هو حريص على الصوم والصلاة أن يكون صومه وتكون صلاته تنهيانه عن ارتكاب الإثم والعدوان على الأقل في شهر رمضان الكريم..؟, وهذا هو المنطق المتناسق, وهو ما لم يحدث، والدليل أن ذلك الشخص جاء بنية مبيتة لارتكاب إثم وعدوان مما يتنافى مع تعاليم الدين الذي يفترض أنه يؤمن به وبما فيه.
هذه الحادثة وما قبلها تضعنا فعلا أمام حالة شديدة الغموض والسوداوية والخطورة أيضا, وهي حالة ترتكز على قناعات تغيب حقائق الدين وتطمسها وتشل التفكير العقلي وتقوم على زراعتها في العقول بغرض إعلاء نوازع الشر وتسميها جهادا في سبيل الله, وتعمل على إضعاف دوافع الخير بادعاء أنها ضعف وتهاون في حدود الله, وتعمى البصر والبصيرة
عن أبسط قواعد وتعاليم هذا الدين الرحيم الذي يحض دوما على الحسني وليس على الشر بدافع التطويع لمن يسقط في هوة غسيل العقل ومن ثم استخدامه لتنفيذ عمليات تفجير واغتيال وترويع, ولذا فإن هذه الحالة يصعب كشف أغوارها لأنها تعمل وتتحرك في ظلامية قاتمة, وتحمل أفكارا تكفيرية قاطعة لا مجادلة حولها, وتطلق أفرادا وصل بهم الأمر إلى الاستعداد للتضحية بأنفسهم بكل هذه البساطة والسذاجة معا ليشكلوا خطرا لا يعرف من أين سيأتي.
هذا الوصف لهذه الحالة التي اتفق على تسميتها بالإرهابية ينزع عنها وبموضوعية ادعاءات التمسح بالدين, فأقلنا فهما للدين يعرف ويعلم أن من يقتل نفسا كمن قتل الناس جميعا، كما قال تعالى - عز وجل, ويدرك أن صحيح فهم الدين ينبذ العنف والكراهية, ولهذا فإن هؤلاء الذين يطلقون على جماعتهم اسم الجهاديين, هم في الواقع يزورون الحقائق ويجافون الحقيقة, والحقيقة هي أن القضية ليست قضية دين ودعوة لجهاد في سبيل الله ولا إيمان, بل حالة صراع ما بين سلطة مؤتمنة على أمن بلد وشعب, وفئة خارجة عليها باسم الدين الذي تحتكر وحدها تعريفه وتسعى لزعزعة أمنه واستقراره, وبذلك لا يجوز ولا من المنطق في شيء أن يدعي هؤلاء أنهم يقتلون ويفجرون باسم الله ودينه, فالله ودينه بريئان من ذلك ولا صله لهما بمثل هذه الجرائم التي ترتكب باسم الدين.
من حكمة الله - عز وجل - أن المخطط الإجرامي جاء بعكس ما خطط له, فالمستهدف، وهو الأمير محمد، نجا بأعجوبة ولم يخلف إلا حالة قتل شنيعة للفاعل وحده وقد تمزقت أشلاؤه في رسالة هي مصداقا لقوله تعالى: (ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله) وهو ما حدث بالضبط, وفيها أيضا رسالة إضافية لكل مخدوع بأفكار "الجهاد التكفيري" بأن يعود لرشده ويتحرر من مثل هذا الفكر الشاذ عن ديننا وتعاليمه السمحة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي