جامعة الملك عبد الله: حلقة مفقودة.. تحتضن حلقات

هل جامعة الملك عبد الله ضرورة أم أنها جامعة أخرى تنضم لسلسلة الجامعات السعودية يراد لها أن تحمل اسم عظيم من عظمائنا؟ أم جامعة يراد لها أن تكون مميزة أو متميزة من بين الجامعات السعودية؟ أم منارة إشعاع حضاري يخرج من عباءة جامعة وليدة؟
بدايةً، هناك ما يبرر نعت مقولة القائمين على جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية أن الجامعة هي بمثابة «رؤية قائد وحلم أجيال» بأنها مقولة دقيقة. أما رؤية القائد فتتجاوز إقامة جامعة لمجرد هدف التعليم - رغم سموه - أو مجرد البحث - رغم أهميته، إذ لابد أن تأتي إقامة الجامعة ضمن سياق أوسع وهو تنفيذ سياسة تقنية نشطة، وتأتي هذه السياسة التقنية في دائرة أكثر اتساعاً. إذ لا بد ألا يغيب عن الوعي أن التغييرات الاقتصادية التي أحدثتها موجة العولمة، والسياسة التي اتبعتها السعودية بأن تكون لاعباً نشطاً ومؤثراً في حقبة ستتسم بتغييرات هيكلية، فهناك من يصور العولمة بأنها ذوبان في السياق العولمي. لكن الأمر ليس كذلك، بل القصد تقوية الذات محلياً بهدف استقطاب ما يمكن استقطابه لتحقيق أعلى مكاسب للاقتصاد المحلي، فتعزيز معطيات استقرار اقتصادنا المحلي على المدى الطويل هو الأساس والمرتكز. وعليه، فالجامعة هي جهد في هذا السياق، وإلا كيف يمكن أن يكون لاقتصادنا السعودي أذرع تمكنه من جني ثمار العولمة، وكيف بوسع اقتصادنا المحلي أن يمتلك «جاذبات» مغناطيسية تمكنه من التقاط وجذب الفرص إليه وبعد ذلك توظيفها التوظيف الذي يحقق النمو والتنويع الاقتصادي في آن معاً.
وطلباً للوضوح، فالجميع يقر بأن هناك نقصا فادحا ضمن منظومة التعليم العالي في المملكة، ومحل هذا النقص هو حلقات مفقودة بين التعليم العالي (أي منح الشهادات العليا، الجامعية وفوق الجامعية)، وبين البحث الأساسي (اجتراح الجديد)، وبين البحث التطبيقي (توظيف الجديد أو اجتراح حلول لمشاكل قائمة)، وبين تطبيق البحوث تجارياً (الربط بين الجهات المنتجة للبحوث أو الممتلكة لحقوق الترخيص وبين القطاع الخاص).
ولعل من المناسب بيان، أن جهات كل على حدة وثقت لتلك الجاحة، ومن ضمنها الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض. وبعيداً عن الاستطراد والإطالة، فسأتناول باختصار لقبسات من جهد الهيئة في هذا المجال. وتعود بداية ذلك للجهد الذي تبنته الهيئة منذ ما يزيد على عشر سنوات لتحليل الهيكل الاقتصادي للمدينة والمبادرات التي يمكن أن تطلق لتنويع وشحذ وتيرة النمو الاقتصادي لمدينة الرياض، وكان من ضمن نتائج ذلك التحليل أن هناك إهمالا لصناعة سيكون لها شأن كبير في تشكيل الاقتصاد مستقبلاً وهي الصناعات المعرفية، وأن هناك حاجة للمزاوجة بين الجهود البحثية في الجامعات لربطها وتوظيفها قدر الإمكان لتصب ضمن احتياجات المجتمع، ومنها احتياجات الصناعة والزراعة وقطاع الأعمال.. وطلباً للدقة وللتعرف على التجارب القائمة في هذا المجال تم تحليل تجارب عالمية ذات صلة، وزيارة عديد للمراكز العلمية التي استطاعت تحقيق تقدم في مجال الصناعات المعرفية بصورة عامة، والربط أو لنقل احتضان أو تطويع وتوظيف البحوث لأغراض اقتصادية (في قطاع الأعمال أو الصناعة أو الزراعة).
ورغم تعدد التوجهات، غير أن اللافت - في تقديري - من بين الدراسات على مراكز الصناعات المعرفية كانت «مدينة سكوبا» في اليابان، وكان لافتاً من بين مراكز الصناعات المعرفية التي غطتها تلك الزيارات مركز أكسفورد للأبحاث. وكان حلماً يراوح في عقول أعضاء الفريق أن يكون في مملكتنا مركز شبيه ليكون لبلدنا دور في التحول الاقتصادي القادم. وعرضت المبادرة، بعد أن درستها ومحصتها الكوادر الفنية والتنفيذية فيها، على مجلس الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض وحظيت بقبول الهيئة وتأييدها بل رأى مجلس الهيئة فيها توجهاً استراتيجياً يتجاوز حدود إقامة مركز أو حتى مراكز، فكانت هناك توجيهات واضحة للهيئة في هذا الصدد لا يتسع المجال لتناولها هنا. كما كان هناك اهتمام من قبل القطاع الخاص أن يضطلع بدور أساس فيها، وبالفعل عقدت اجتماعات وانفضت اجتماعات، وتمخض الأمر في نهاية المطاف إلى ولادة مجمع تقنية المعلومات والاتصالات في مدينة الرياض بعد أن تبنته المؤسسة العامة للتقاعد.
وكما ذكر آنفاً، فقد لمست جهات عدة الحاجة لمراكز تقنية مرتبطة بجامعات تقوم على البحث الجاد والرصانة العلمية، لكن المبادرة بقيت تراوح حتى أعلن عن قيام جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية. وبالتأكيد، لن نعدم من يقول: هي مجرد جامعة، وما الذي يمكن أن تحدثه إضافة جامعة لمجتمع؟
يكمن الجدل في أن مراكز الإشعاع بوسعها أن تحدث الكثير، بالنظر لما أحدثه وضع بذرة صغيرة في كامبردج في بريطانيا على ضفاف النهر قبل نحو 800 عام؟ تفتخر جامعة كمبردج بأن نحو 80 ممن كانوا على صلة بها حازوا جائرة نوبل، وبأنها المكان الذي ترعرع وبزغ فيه نيوت ودارون وواتسن وباباج. لاحظ، هي سلسلة من الجرعات التقنية المتواصلة التي تحولت إلى دفعات اقتصادية مؤثرة، وأحياناً إلى اختراعات علمية أسهمت في بزوغ صناعات وأنشطة بل وحتى قطاعات اقتصادية أدت إلى إعادة توزيع الثروة، وهزت ميزان القوى العالمي لصالح دول على حساب دول أخرى.
ويمكن التساؤل، في تجربة أكثر حداثة من تجربة كامبردج، ما الذي حركه إيجاد مدينة سكوبا في اليابان؟ في الستينيات من القرن الماضي قررت الحكومة اليابانية نقل مراكز البحث الحكومية من زحام مدينة طوكيو. ومن أجل ذلك خصصت قطعة من الأرض مساحتها قرابة 27 كيلومترا مربعا في منطقة خضراء خصبة تتمتع بموقع جغرافي مميز، وأقيمت هناك جامعة «سكوبا الوطنية»، لتصبح مرتكزاً لمدينة سكوبا العلمية. حالياً هذه المدينة هي البؤرة البحثية الأهم في اليابان دون منازع، ومن ضمن الأهم على مستوى العالم، حيث تحتضن المدينة أكثر 50 مؤسسة تعليمية وبحثية حكومية ونحو 200 مركز بحثي تابع للقطاع الخاص، ويتجاوز عدد سكانها 180 ألفاً. وحالياً، هناك من يقيم هذه التجربة بأنها منحت تميزاً تنافسياً لليابان تبز فيه منافسيها.
وفي تجربة أكثر التصاقاً بوطننا، ما الذي غيره استزراع جامعة سعودية على جبل الظهران الذي كان جنة للصيد والقنص قديماً؟ فتحولت مهمة الجبل من احتضان «المقناص» وممارسيه إلى استقبال العقول الغضة وإعدادها للمساهمة في بناء الوطن وقيام أحد أقدم وأنشط مراكز البحوث في المنطقة العربية.
وفيما يخص الجامعة الوليدة، جامعة الملك عبد الله، فهي تقوم على مبادئ أساسية، منها: إنشاء مجتمع دولي من العلماء، واستقطاب الرواد في مجالات العلوم والتقنية، والأخذ بأعلى المعايير الدولية. وتسعى الجامعة - طبقاً لنشرة صادرة عنها - إلى تحقيق خطتها البحثية من خلال أربعة محاور: الموارد والطاقة والبيئة، العلوم البيولوجية والهندسة البيولوجية، علم وهندسة المواد، الرياضيات التطبيقية والعلوم الحاسوبية.
ورغم الجهد المضني الذي بذل حتى الآن لتحويل قطعة من الصحراء لمركز إشعاع، فليس من شك أن الرحلة مازالت في البداية. وهناك بشائر تعزز من فرص النجاح، رغم ضخامة التحدي، منها أن توجه الملك عبد الله لإنجاز التحدي واضح لا لبس فيه، وتشكيل مجلس أمناء يملك الخبرة والتجربة لتوجيه الإدارة التنفيذية لتحقيق الرؤية، وأن جهود إيجاد بنية تحتية أساسية أثمرت عن إكمال المرحلة الأولى من المشروع العملاق في وقته بما في ذلك تشكيل طاقم إداري واستقطاب هيئة تدريس وقبول طلبة متميزين (متوسط المعدل التراكمي 3.7 من 5). لكن السؤال: هل ستحقق جامعة الملك عبد الله رؤية القائد وحلم الأجيال بجهودها منفردة أم بالتعاون مع الآخرين؟ يبدو أن الجامعة أدركت مبكراً أن عليها الدخول في شراكات مع الآخرين، وبالفعل فقد عقدت عديدا من الشراكات الأكاديمية والصناعية. وإن كنت أتمنى على الجامعة أن تضيف لقائمة شركائها الأكاديميين عديد من الشركاء، منهم جامعة سكوبا الوطنية. وذلك للتجربة الثرية التي تمتلكها تلك الجامعة، وهي تجربة على صلة بما تسعى جامعة الملك عبد الله لإنجازه.
ولعل من المناسب، ونحن نحتفل بافتتاح الجامعة، أن نستذكر جملة أمور قد تؤدي إلى إعادة هيكلة وترتيب البيت «البحثي» السعودي من الداخل. فما دمنا لسنا أمام جامعة تعليمية، بل الهدف هو أوسع من ذلك وأضخم فلابد من أن تطلق الجامعة عدداً من المبادرات لتقوية الذات رغبة في إنجاز رؤية القائد، التي عبر عنها خادم الحرمين الشريفين بقوله: «..فقد رأيت أن أؤسس جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية باعتبارها بيتاً جديداً للحكمة ومنارة للسلام والأمل والوفاق تعمل لخدمة أبناء المملكة ولنفع جميع شعوب العالم عملاً بأحكام ديننا الحنيف.. وإنني أرغب أن تصبح هذه الجامعة الجديدة واحدة من مؤسسات العالم الكبرى للبحوث. وأن تعلم أجيال المستقبل من العلماء والمهندسين والتقنيين وتدربهم، وأن تعزز المشاركة والتعاون مع غيرها من جامعات البحوث الكبرى ومؤسسات القطاع الخاص على أساس الجدارة والتميز». وعند التمعن في هذه الرؤية الطموحة بالفعل، نجد أنها تنبع من حلم يراود ولطالما راود أذهان أجيال عدة بأهمية أن نسعى ليكون لنا مركز إشعاع يضيف للحضارة الإنسانية إضافات لما سبق به العلماء العرب والمسلمون على مدى أجيال. ونجد كذلك أن التكاتف من أجل تحقيقها قد يتطلب أن تضيف الجامعة شريحة جديدة من الشركاء هم «الشركاء الاستراتيجيون». فمثلاً، فبوسع مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية (وهي حاليا شريك أكاديمي)، وهي القيمة على تنفيذ السياسة الوطنية لتطوير التقنية، وتمتلك موارد مالية وبشرية تجعلها في وضع بوسعه أن يمارس دوراً أكثر اتساعاً للمساهمة في أن تصبح جامعة الملك عبد الله «داراً للحكمة» ومركز إشعاع راسخ في أقل عدد ممكن من السنوات.
من جهة ثانية، فإن رغبة الملك عبد الله في أن تصبح هذه الجامعة أحد مراكز البحوث الكبرى تدفع - ضمن ما تدفع - لعملية احتضان شاملة تتجاوز مجرد احتضان البحث التطبيقي التجريبي إلى احتضان تطبيقاته الأولى والسعي المنهجي لتوظيفه اقتصادياً عبر استغلال تطبيقاته التجاريه بما يعود بالفائدة على الجامعة والاقتصاد المحلي. مما قد يستدعي التفكر في استدراج شراكات تقنية تمكن الجامعة الجديدة من إقامة جسور مع المراكز التقنية الرئيسية في العالم. ومن باب التذكير، فإن الجامعات الأهم في العالم إما تقيم هي أو تدخل في شراكات أو توعز للقطاع الخاص بإقامة ما يمكن تسميته «أقطاب تقنية» (technopolis)، ومن أشهر تلك الأقطاب «وادي السليكون» المرتبط بجامعة ستانفورد، أو»مركز أكسفود للعلوم» الواقع على تخوم مدينة أكسفورد. وليس خافياً، أن إيجاد مركز تقنية بجوار الجامعة سيعني أن «أقصدة البحوث التطبيقية» سيصبح ليس فقط هاجساً بل أمراً قائماً. ورغم تعدد الخيارات، لكن بوسع الجامعة أن تنشئ شركة لتولي هذا الأمر من الناحية اللوجستية، وأن تدخل الجامعة أو الشركة (ولعل هذا الخيار أنسب) في اتفاقات أو شراكات مع «مراكز والأقطاب التقنية» الرئيسية في العالم رغبة في استقطابها عبر صيغة واضحة المعالم، إذ إن العلاقة مع هذه المراكز تقوم ليس فقط على الاحتضان فقط بل كذلك لتطوير حبل سري كفء قادر على الربط بين الجامعة والقطاع الخاص المحلي والإقليمي والعالمي. ولعل من الملائم التذكير بأن أهم المخترعات والاكتشافات اكتسبت تأثيرها بعد أن دخلت حيز الاستخدام التجاري، كما أن وجود بعد اقتصادي عملي عبر شركة تهدف إلى تحقيق الربح سيفرض معطيات العمل الساعي للربح على هذا الجانب من عمل الجامعة، ولعل من أهم تلك المعطيات التمحور حول الأهمية القصوى للوقت. الأمر الآخر، ولعله هو الأساس أن يساهم كل ذلك في تحقيق مكان مرموق للمملكة في عالم «حقوق الملكية الفكرية» عبر ليس فقط تسجيل ولكن كذلك ترخيص براءات الاختراعات.. وهكذا، نضيف - مع مرور الوقت، صادرات «فكرية» لصادراتنا التقليدية من النفط والبتروكيماويات السلعية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي