أيكون الجهل ديانة يُتقرب بها إلى الله؟! (2 من 2)
القول بربوية الفلوس المعاصرة هو اجتهاد محض قُدم فيه العقل عن النقل في وقت كان لذلك الرأي وجهة من نظر (ظهر خطؤها وضررها لاحقا). وقد خنق هذا الاجتهاد المبني على الرأي دون النص اقتصاديات المسلمين فقطع عنها التمويلات اللازمة لبناء الاقتصاد مما أدى إلى الاعتماد على الدولة وظهور الطبقية المقيتة وهروب رؤوس الأموال وظهور (صيرفة جحا) صيرفة الحيل الساذجة التي يتجسد فيها جميع معاني الاستغلال والاحتكار والمضاربة بأقوات المسلمين وسلعهم.
القول بربوية الفلوس المعاصرة كان بحاجة إلى منظومة دفاع تدافع عن هذه الثغرة العظيمة، ثغرة تقديم العقل على النقل. فالقول بربوية الفلوس المعاصرة قول شاذ لا تقوم به حجة شرعية نقلية أو عقلية صحيحة بل هو رأي محض من باب الاحتياط يخالف سيولا عظيمة من الأدلة النقلية الثابتة والأدلة العقلية المنضبطة. فدعا ضعف الحجة إلى ظهور سياسة التعنيف والتشديد على المخالف من أجل تقديم غطاء وبديل للدليل الشرعي الصحيح. وبدعم من جهل الناس، وعدم فهمهم لفقه البيوع، وعدم إدراكهم لحكمة الله التي تجلت بوضوح في العصر الاقتصادي الحديث، وتسلية النفس بالانتصارات الكاذبة، وعدم الرضا بأحكام الله، قام مرتزقة الدين والجهال والبسطاء والعامة فتسلطوا على أهل العلم المخالفين فجهلوهم وضللوهم واتهموهم بأبشع التهم حتى انزوى هؤلاء العلماء على أنفسهم تاركين لله أمر دينه، فللبيت رب يحميه. وأصبح حالهم وحال مخالفيهم وحال الغوغاء من الناس يحكي خطاب أبي سفيان للمسلمين في أحد «ستجدون مُثلة لم آمر بها ولم تسؤني» فانتشر الجهل في هذا الباب من الفقه واتخذ الناس أشخاصا يستخفون بعقولهم فيحرمون عليهم الحلال ويحللون لهم الحرام ويفتونهم بحيل ساذجة أكلا لأموالهم بالباطل.
ولو أن المخالفين قديما من أهل العلم (في مسألة ربوية الفلوس المعاصرة) ردوا على من تطاول عليهم بالمثل ووقفوا وقفة صبر وثبات لما انتهينا إلى ما نحن إليه الآن، فهذا حق مشروع بكتاب ربنا وسياسة مطلوبة يشهد لها فعل الصديق في الحديبية (في رده على عروة بن مسعود ـ رضي الله عنهم أجمعين). قال تعالى: «لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم»، وقال «والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون» وقال «وجزاء سيئة سيئة مثلها» وقال «ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل إنما السبيل على الذين يظلمون الناس» واتفقت الأديان والحضارات على أن البادي أظلم.
وقبل الانتهاء من هذه المقدمة فإنه والله من ظلم الإنسان لأخيه أن يتغنى بأراجيز التسامح والغفران والتغاضي وحسن الحوار وهو متكئ على أريكته فيسوي بين البادي بالظلم والمنتصر بعد ظلمه. ومما حفظته عن شيخنا ابن عثيمين - رحمه الله - نصيحته للقضاة بألا يعقدوا صلحا بين اثنين حتى يبينوا لصاحب الحق حقه كاملا.
وعودة على تعقيب الدكتور صلاح آل الشيخ المعنون بعنوان «الأوراق النقدية.. الخوض في العلم بلا علم» فقد بينت في الجزء الأول تطاوله على صفوة من علمائنا ـ رحمهم الله ـ كابن سعدي وابن حميد وابن بسام وابن عثيمين ووصفه إياهم بالجهل. وبينت جانبا من خلطه وخطئه كالاستشهاد باعتبار القياس على الأحكام التعبدية وكخلط العلة بالحكمة وكعدم التمييز بين إطلاق العلة وقصرها. وبينت جانبا من خلو نقاشه من المنطق الصحيح. وأتابع هنا فأبين تقوله على العلماء بما لم يقولوه، وإنكاره الزكاة في كثير من الأموال، وإخفاءه من الفتاوى ما لا يحتمل إخفاءه في مواقع الخلاف.
فمما أتى به الدكتور صلاح مما يدل على تلبيسه (أو عدم فهمه) تقريره بأن علة قياس الفلوس المعاصرة على الذهب والفضة هو مطلق الثمنية وبالتالي فقد نص على جريان ربا الفضل والنسيئة. ثم خلط ولبّس وتقوّل على عدد من العلماء لم يقولوا ذلك. فقال «وهذا القول هو قول المشايخ: مفتي المملكة واللجنة الدائمة للإفتاء وهيئة كبار العلماء والمجامع الفقهية والشيخ محمد بن إبراهيم، والشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ محمد بن عثيمين والشيخ صالح الفوزان وعامة المشايخ» انتهى. وهذا فيه تلبيس وخلط وجهل. فلم يقل بقياس الفلوس على النقدين بعلة مطلق الثمنية أحد من شيوخ كبار أهل العلم ما عدا الشيخ ابن باز – رحمه الله -. فقد تقوّل الدكتور صلاح على ابن عثيمين الذي لا يرى علة «مطلق الثمنية» بل «غلبة الثمنية» (أي قصر العلة على الذهب والفضة فلا يقاس عليها غيرها). وكذلك فابن عثيمين لا يرى جريان ربا الفضل في الفلوس المعاصرة. وتقوّل أيضا على الشيخ محمد بن إبراهيم الذي كان يرى أن علة الربا في الذهب والفضة هي «الوزن» لا مطلق الثمنية. وهو لا يحتاج إلى مراجعة فمعرفة أن علة الوزن هي المعتمدة عند ابن إبراهيم يتسق مع تأصيله – رحمه الله - في جريان الربا في الفلوس المعاصرة من باب الاحتياط «احتياطا»، ويتماشى مع عموم فتاويه التي يتبع فيها الراجح من المذهب الحنبلي، الذي يرى «الوزن» علة للربا في الذهب والفضة. وقد نص الدكتور صلاح عن بعض الناس قوله «ومنهم منتسبٌ لهم يقول بجهل وهوى فله الوعيد بالنار»، وأقول ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم. فقد انتسب الدكتور صلاح لهم ونسب عنهم بجهل وهوى. ومن ذلك أيضا ما نسبه الدكتور صلاح إلى فتوى هيئة كبار العلماء دون تقييد, فهذا فيه تدليس عظيم لأنه هو موضع الخلاف. فالفتوى قد نصت صراحة على الحيثيات التي قامت عليها، ومؤداها أن الفلوس المعاصرة هي مستودع للثروة، وهو ما لم يعُد قائما. وتغيّر حجج الـتأصيل والمعطيات والحيثيات يُؤدي إلى تغيّر الفتوى, وهذا شامل في الأحكام كلها ومعلوم حتى في القوانين الوضعية. كما أن أغلب شيوخ كبار علماء الهيئة توقفوا في ذلك، وهم: ابن حميد، والشنقيطي، وعفيفي، واللحيدان. وابن غديان.
ذكر الدكتور صلاح في تعقيبه بأن كتاباتي حول الفلوس المعاصرة انتهت إلى أن الربا لا يجري فيها, وهذا صحيح وهو مصرح به في كل كتاباتي وهو سببها ومحورها التي تدور عليه. ثم أضاف «ويلزمه ألا تجب الزكاة فيها». وهذا تدليس على القارئ، والصحيح بأنه هو من ألغى الزكاة في العظيم وقصرها على التافه الحقير. وقد كتبت كثيرا في أن هذا ليس بلازم، بل إن فيها الزكاة، وقول الدكتور صلاح لا قولي هو من حرم الفقراء من عظيم الزكاة. وقد أوضحت أن استدلالهم بقاعدة «أن ما لا يجري فيه الربا لا تجري فيه الزكاة» لا يصح، لأنها قاعدة باطلة. فالأنعام، وعروض التجارة، وغيرها، لا يجري فيها الربا وتجري فيها الزكاة. وقد كتبت في ذلك. وقد كرر الدكتور صلاح القول بعدم إخراج الزكاة من الفلوس إن لم يجر فيها الربا في مواضع كثيرة، وهو على ما يبدو يعتقد أنه بكثرة التكرار سيؤصل المسألة في السامع نفسها. وما درى أن التكرار قد ينفع مع من اعتادوا التلقين بغير فهم لا مع العقلاء من الناس. والعجيب أنهم حصروا الزكاة في الأموال المنصوص عليها بينما لم يطردوا فيتبعوا المنهج نفسه في الحصر على الأموال الربوية المنصوص عليها بل لووا نصوص الشرع من أجل تغطية خطأ فهمهم للأموال الزكوية.
اقتبس الدكتور صلاح من أحد مقالاتي قولي <>إذن فعند الظاهرية والمشهور عن الأئمة الأربعة أنه لا يجري الربا في النقود الورقية المستعملة اليوم>>. ثم علق فقال: «والحق أنَّ مسألة الأوراق النقدية مسألةٌ حديثةٌ ليس للسلف قولٌ فيها، ولا يصح نسبةُ القول بعدم جريان الربا وعدم وجوب الزكاة فيها للفقهاء المتقدمين». وكلام الدكتور صلاح هنا خطير ومناقض لنفسه. فهو خطير من جهة أنه ينسف كل قواعد وأصول الدعوة النجدية، وكل كلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله -، وهو يفتح بابا واسعا للاستشهاد بهذا المنطق لرفض كل أحكام الدين. فكلما جاءت مسألة قلنا: هذه مسألة جديدة، ليس للقدماء فيها قول!. أما تناقضه هنا فالشيخ صالح الفوزان الذي استشهد به الدكتور صلاح هو أحد العلماء الذين استندوا على قول السلف في تأصيل المسألة فقال: «فعند هؤلاء (يقصد الحنابلة والأحناف)» لا يجري الربا في النقود الورقية المستعملة اليوم ولا في الفلوس من غير ذهب أو فضة لأنها غير موزونة». وفي الواقع فإن اعتماد السلف في تأصيل المسائل هو منهج جميع العلماء وهو أصل أطروحات هذه المسألة وأصل كل مسألة شرعية. هذا منطق مستحدث من أعجب وأغرب وأضعف وأخطر ما سمعت في المحاجة في ربوية الفلوس المعاصرة وهو يدل على إفلاس ويأس هؤلاء من أن يجدوا حجة شرعية ثابتة أو حجة عقلية منضبطة.
وذكر الدكتور صلاح في تعقيبه أمورا أخرى من الخلط والقول بلا فهم كإعادته لقولي إن القرض عقد إحسان وموافقته لي في ذلك. وأقول ثم ماذا؟ فهل «سابك» تطلب الإحسان من البنوك لتمويلها. وفي المقالين كفاية فقد آن لأبي حنيفة أن يمد رجليه.
ثم جاء الدكتور صلاح يدافع عما يسمى «الصيرفة الإسلامية» وهو أبعد الناس عن إدراك حقيقتها. وهنا سأحاول أن أبسط له الأمور وأختصرها، فأقول: ارجع إلى الروض المربع، وابحث في باب البيوع عن البيع الثلاثي (صورة من العينة)، واعلم أن هذا البيع هو أقصى ما تطمح إليه الصيرفة الإسلامية لتوصف بأنها النقية الخالصة من الشوائب عندهم، وأما المشاركة فهي «قرض»/ تمويل برهن أسموه مشاركة في أسهم لا تزيد قيمتها ولا تنقص، وأما الصكوك فهي تغيير محض للمسميات، فلا يُدلسن عليك أهلها.
ثم بعد كل هذا الجهل والخلط والتلبيس ختم الدكتور صلاح تعقيبه بقوله، «والخطر في قوله ليس لقوة حجته، بل لموافقته الهوى»، وأقول بل الخطر يقع في الفكر الذي اعتاد على التلقين المحض المسجون بثقافة «أها بس» فهذا دكتور فقه خريج جامعة الإمام!