تحية لرصيف احتضن «حصة الزعاقي»..!
''يحضر المراجع، ويعرض عليّ الخدمة المطلوبة، وأقوم بتـعبئة الاستمارة ووضعها في الملف الخاص، ويدفع ما يتيسـر، وعادة لا تتجاوز قيمة المعروض والاستمارة والملف عشرة ريالات أو خمسة''.
بالكلمات السابقة عبّرت ''حصة الزعاقي'' - أول مواطنة سعودية تقتحم مهنة كتابة المعاريض وتعبئة الاستمارات, أمام مبنى الأحوال المدنية في الرياض- عن مهام مهنتها الجديدة بحسب ما نشرت إحدى الصحف المحلية أخيراً, ضاربة أروع مثال لشجاعة المرأة السعودية في خوض معترك الحياة بحثاً عن لقمة العيش الحلال, دون انتظار مساعدة من فاعلي الخير أو الجمعيات الخيرية, وهو ما يستوجب مني ومنكم أيها السعوديين والسعوديات أن نقف احتراماً وإجلالاً لها وأن نبعث تحية تقدير ومحبة مع بداية كل صباح للرصيف الذي احتضنها.
لم تنتظر ''أم راشد'' قراراً رسمياً من وزارة العمل لتأنيث مهنة كتابة المعاريض, يتبعه جدل لسنوات عديدة في وسائل الإعلام قبل أن يدخل في غيبوبة لا يُعرف موعد استفاقته منها.
ولم تنتظر ''أم راشد'' اتصالاً هاتفياً من مكتب مختص في تشغيل ''العاملات المنزليات'' يبشرها بوجود فرصة عمل تنتظرها في منزل أحد أبناء جلدتها!
ولم تنتظر ''أم راشد'' طارقاً يطرق باب منزلها ليمد لها لفّة من الريالات وكيسا صغيرا من الأرز تقتات بهما حتى نهاية الشهر!
هكذا وبكل ثقة في نفسها وفي كرم خالقها ارتدت عباءتها وحملت معها طاولة صغيرة وكرسيا أصغر وبعض وريقات وخرجت لجمع رزقها من عرق جبينها, دون منّة من أحد, وهي تعلم جيداً أن لقمة العيش لا ترتهن لقرارات رسمية من هنا أوهناك, فاتحة بخطوتها هذه لبنات جنسها باباً لطالماً كان مغلقاً في مخيلة الكثير من الناس لكنه مشرع على مصراعيه منذ بدء الخليقة على أرض الواقع.
''حصة الزعاقي'' يا سادة يا كرام إمرأة قادمة من ثقافة ما قبل طفرة ثمانينات القرن الميلادي الماضي وما صاحبها من تغيرات فكرية واجتماعية قلبت أعرافنا رأساً على عقب.. تلك الطفرة والتحولات التي أفسدت الكثير من المعاني الاجتماعية الجميلة في هذا الوطن, وغيرت الكثير من المفاهيم حول عمل المرأة السعودية وكسبها لقمة عيشها الحلال بعرق جبينها.
ما زلت حتى اليوم أتذكر وجوه الكثير من أمهاتنا السعوديات اللواتي شاهدتهن في طفولتي يبعن ويشترين في الأسواق ويمارسن الكثير من المهن الشريفة دون وجل أو تردد.. مازلت أتذكر وجه الخالة ''أم محمد'' التي كانت تقف قبل 30 سنة بكل شموخ في ''دكانها'' الصغير ذي الباب المشرع على شارع لا تتوقف فيه حركة العابرين منذ طلوع الشمس إلى غروبها لتبيع المواد الغذائية ومواد العطارة للرجال والنساء على حد سواء والكل يكن لها الاحترام والتقدير, وينظر إليها كسيدة غنية, تدير رأسمالها بكل احترافية وثقة, ولا أعلم إن كانت على قيد الحياة حتى اليوم أم انتقلت إلى بارئها, لكنها بكل تأكيد مازالت حية شامخة في ذاكرة كل من عرفوها, كما ستبقى ''حصة الزعاقي'' نموذجاً حياً للمرأة السعودية الشجاعة المحملة برائحة ماضينا الجميل وأعرافه الاجتماعية التي نسيناها طوال ثلاثة عقود من الزمن.