فقهاء ما يطلبه المستمعون

 التقليد هو نوع من أنواع الحفظ، والحفظ وسيلة لتحصيل العلم ولكنه لا يجعل من صاحبه عالما. فلا يدرك العلم من لا يستطيع الفهم، ولا يُؤتى الفهم من أفلس من المنطق. وعلى كلٍ، فإدراك العلم مسألة وإظهاره أو العمل به مسألة أخرى, فالجهل في أمتنا نوعان, جهل حقيقي بسبب قلة الفهم, وجهل سياسي (أي تجاهل عن عمد). والجهل السياسي أنواع منوعة، ابتداء بدعوى سد الذرائع ومرورا بالحرص على النفوذ وانتهاء بعشق حصد الشعبيات.
 فقهاء ودعاة ما يطلبه المستمعون سوقهم رائجة أعظم رواجا من سوق فقهاء التقليد، وكلاهما ضرره أكبر من نفعه. فقهاء التقليد يقتلون الأمة قتلا بطيئا أما فقهاء ودعاة ما يطلبه المستمعون فخطرهم يكمن في زمن الفتن لأنهم يجعلون من شررها نيرانا مستطيرة, فالفتنة إذا أقبلت صفق لها عامة الناس وزغردوا فيرقص على أنغامها فقهاء ما يطلبه المستمعون ويطبلون.
فجرت امرأة نفسها انتحارا في السفارة الأمريكية في لبنان فأشعلت شرارة فتنة ألهبت مشاعر عامة الناس فانتهزها فقهاء الشهرة فتغنوا بها وتمايلوا. وتأُججت نار الفتنة التي تعاظم أمرها عبر الزمن واستفحلت وفقهاء الشهرة، يا ويح فقهاء الشهرة، لا يزالون عميا بكما صما يخشون التخلي عن أمجاد شعبيات حصدوها على حساب دماء المسلمين وأمنهم.
قبل أكثر من عقد من الزمن وفي أحد أهم الجوامع القريبة من مدينة بوسطن الأمريكية، جلست أعلم الناس دينهم، وسرعان ما امتُحنت بالسؤال عن العمليات الانتحارية في فلسطين ( ولم تكن فكرة الانتحار قد توسعت بعد). كان الجواب واضحا جليا كما سمعته نصا صريحا لا لبس فيه ولا مواربة ولا سياسة ولا استثناء من شيخنا ابن عثيمين عندما سُئل عن قوله في ذلك فقال "قولي فيه إنه في النار" . فلم يمس الليل إلا وأصبحت عميلا لإسرائيل ومطية لأمريكا وأداة للاستخبارات السعودية وتفرق غالب أهل الجامع، وسعت الوساطات من الأئمة في المنطقة لإقناعي بالتراجع بدعوى السياسة الشرعية فلم تفلح الشفاعات، فدين الله ودماء المسلمين أعظم من شعبيات زائلة.
 لم أكن ساذجا فقد كنت أعلم جيدا تبعيات هذا الجواب من تغير الناس وانصرافهم. فقد كنت قريب عهد بالتسعينيات وبحرب الخليج، فلم تكن تخفى علي سياسات كسب الشعبيات ومواقف تضييعها. ولم أزل أذكر كيف كان صعود المنبر والتلاعب بعواطف الناس يقلب الأمور فيجعل من السياسي (مصلحا كان أو مرتزقا) رجل الدين الأوحد بينما يُصنف العالم الرباني تحت خانة الأحبار والرهبان الذين يأكلون أموال الناس بالباطل, فالدين في العالم الإسلامي عامة وعندنا خاصة هو أسهل وأنجع مركب لتحقيق الغايات لكل ذي طموح في جاه أو مال أو سلطة أو تسلط.
العامة والخاصة على سواء يقعون فريسة للتلاعب بالعواطف واستخدام الحاجات، فلا يميزون بين فقيه الشهرة وفقيه الملة. فقيه الملة منضبط مطرد في الفتوى له منهج واضح لا يتناقض، بينما فقيه الشهرة متناقض متمايل مع ما يطلبه المستمعون. وليس الشاهد هنا بأنه يلزم من ذلك أن فقيه الملة دائما على صواب والآخر على خطأ, فـ (الحكم على الشيء فرع من تصوره وقد يعجز العالم عن تصور مسألة ما، كما أن منهج الاستنباط يختلف من شخص إلى آخر), بل الشاهد هنا هو التفريق بين رجل الدين ورجل السياسة المتلبس بلباس الدين (والسياسة هنا سياسة تحصيل الجاه أو المال أو السلطة).
عند ظهور فتنة الانتحار باسم الاستشهاد لم يتصد لها إلا الراسخون من أهل العلم كابن عثيمين وابن باز والألباني وجميعهم ماتوا ـ رحمهم الله ـ قبل حادث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر), أي من قبل أن يستفحل شر العمليات الانتحارية وعندما كانت مقتصرة على اليهود الغاصبين في فلسطين. الانتحار من أكبر الكبائر وتحريمه تحريم غاية لا يصح استحلاله من أجل وسيلة. ولو اعتبرنا منطق المخالفين كوجهة نظر عقلية فالمنطق الشرعي يلزمنا بأنه عند تحير العقول في زمن الفتن وضبابية الموقف فإنه يمتنع الاجتهاد العقلي أمام النص فلا يجوز بحال تقديم العقل على النقل بحجة السياسة الشرعية، والانتحار عظيمة من كبائر الذنوب لا مجال للتوبة فيها والوقوف على النص قد أثبت صوابه وصحته ورجحانه. والإقدام على قتل النفس في المعارك ليس من أساليب المسلمين القتالية بل هو من صفات البوذيين خاصة كاليابانيين والفيتناميين ويأتي من بعدهم المشركون والملحدون، بينما تندر العمليات الانتحارية عند أهل الكتاب من اليهود والنصارى وتنعدم عند المسلمين إلا في الفترة الأخيرة وهذا دليل على أنها من البدع التي ما أنزل الله بها من سلطان.
في بداية ظهور العمليات الانتحارية في فلسطين قد يقصر نظر البعض فيقدم العقل على النقل ويفتي بجواز الانتحار كأسلوب حربي قتالي تأسيا باليابانيين والفيتناميين والشيوعيين. وفي ذلك الوقت قد يجتهد بعض فقهاء ما يطلبه المستمعون فيتفون بجواز الانتحار نزولا عند رغبة الناس ومن أجل ألا يتهموا بالعمالة لإسرائيل أو للأنظمة الحاكمة، فيقدمون (متأولين) مصالحهم الخاصة على مصالح المسلمين. أما الآن فلا عذر لمعتذر. فهذه الفتوى على إفلاسها من المستند الشرعي فقد أثبتت فسادها العقلي. فكم سفكت هذه الفتوى من دماء وانتهكت من أعراض وكم ضيعت من موارد الأمة ومن حقوق المسلمين وكم انتهبت من أموال وقد أصبح الانتحار سلاحا مشهورا على رقاب المسلمين وعلى أمنهم وديارهم. أفما آن لمن أفتى بجواز هذه العمليات خطأ أو جهلا أو شهوة أو قصرا في النظر أن يتقي الله فيرجع إلى حكم الله الصريح ويتبرأ من هذه الفتوى. أما آن للمتدثرين بغطاء الصمت المسترزقين باسم الدين أن يصدحوا بها جلية واضحة كالإمام الرباني ابن عثيمين "قولي فيه إنه في النار". 
أين المجمعات الفقهية من تحريم هذه العمليات؟ ما أكثرها ولا عمل لها إلا المصادقة في قراراتها على ما يراه بعض المتنفذين فيها وكأنها الأمم المتحدة. وعلى حد علمي، فإنه لم يصدر أي مجمع فقهي غير دار الإفتاء المصرية فتوى صريحة بتحريم العمليات الانتحارية بأي حال من الأحوال.
يجب أن نقف وقفة مكاشفة وصراحة مع كبار المنظرين المشهورين المدافعين عن هذه العمليات كالدكتور يوسف القرضاوي وأمثاله. ومن أقواله في مشروعية هذه العمليات الانتحارية «إن هذه العمليات تعد من أعظم أنواع الجهاد في سبيل الله" كم زايد وتاجر الدكتور القرضاوي بفتاوى الجهاد هنا وهناك وآخرها في العراق. ألم تلامس مآسي المسلمين في العراق وفي فلسطين مسامع الدكتور القرضاوي. لم لا يذهب مع أبنائه فيشارك المسلمين مآسيهم في العراق وفلسطين وأفغانستان بدلا من التنقل في ديار الغرب التي يصفها بأنها دار حرب! ما أسهل التلاعب بعواطف المسلمين.
 هل لنا أن نستفسر من الشيخ عبد الله بن منيع عن صحة ما تتناقله عنه الآلاف من صفحات الإنترنت التي تستشهد بفتواه في جواز ومباركة قتل النفس. هذه الجهات تشدد على كون الشيخ عضوا من أعضاء هيئة كبار العلماء في السعودية (والوحيد منهم الذي نُقل عنه الجواز). ومما يُنسب إلى الشيخ قوله " لا شك أن العمليات الاستشهادية في سبيل الله ضد أعداء الله ورسوله وأعداء المسلمين قربة كريمة يتقرب بها المسلم إلى ربه, ولا شك أنها من أفضل أبواب الجهاد في سبيل الله, ومن استشهد في مثل هذه العمليات فهو شهيد ـ إن شاء الله". والتعميم في هذه الفتوى تحت كلمة ( في سبيل الله) وصفة (أعداء الله ورسوله وأعداء المسلمين) ألفاظ واسعة تُدخل كثيرا من المسلمين تحتها عند الإرهابيين الخوارج. 
كم سُفكت دماء الآلاف من المسلمين على أصداء الخُطب والمحاضرات النارية هنا وهناك. ما مضى قد مضى، ولكن يجب إصلاح تبعيات وآثار ما مضى، فالمسلمون ليسوا حقل تجارب لتعليم وتطوير فكر الدعاة والإصلاحيين. ليس هناك تشكيك في النوايا الإصلاحية للدعاة والإصلاحيين لا قديما ولا حديثا ولكن يجدر بهم وقد عبروا على جثث المسلمين للشهرة والعالمية ألا ينسوا وراءهم تصحيح الطريق الذي انحرف وبانت نتائجه.
العمليات الانتحارية الآن هي غالب سلاح الإرهاب. وهي تتميز باستغلال الخير عند الناس من أجل الغدر بهم. هذا الغدر والخسة في نقض العهود قد جلب التضييق على المسلمين في بلادهم وفي شتى أصقاع الأرض فضلا على تصنيف الإسلام بأنه دين الغدر والخيانة.
يجب علينا أن نقف وقفة صدق ونتوقف عن التغافل والتجاهل والتعامي عن منظري العمليات الانتحارية. يُعطى الإرهابي الخارجي نصف الفتوى وهو جواز قتله نفسه ثم يتكفل هو بالنصف الآخر. فيصنف المسلمين بين كافر وموال للكفار (عدو لله ورسوله) ومسلم جاء عرضا في خط النار، فيقتل الجميع (بغدره) على أن الله سيبعث كلا على نيته! إن هؤلاء الخوارج, وإن كانوا جُهالا, فإن لديهم شيئا من منطق. فكيف يكون الانتحار عند قتل الأمريكي شهادة ومن أعظم الجهاد ويصبح انتحارا عند قتله لمن يعتقده أنه من عملاء الأمريكان.
العمليات الانتحارية فتنة لم يرها عند إقبالها إلا الحكماء والراسخون في العلم فما بال فقهاء الشهرة لا يزالون لا يستطيعون رؤيتها وقد بان الآن خطرها للداني والقاصي.
ليس العالم المُجدد من يُجوِّز إطالة ثوب أو تقصير لحية أو سماع لحن أو تخريج حيلة, بل العالم الرباني من لا يزوغ عند الفتن كابن عثيمين في فتوى الانتحار أو من يُحيي حكما شرعيا عظيما قد اندثر كابن باز في عدم وقوع الطلاق الثلاث، وكلا الأمرين يحتاج إلى وقفة صبر وثبات لمواجهة الناس والأنداد على سواء.

 
 

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي