حول تقرير «غولدستون»

خسارتنا كفلسطينيين وعرب ومسلمين فادحة وكبيرة حين تم ''تهريب'' العدو الصهيوني من يد العدالة الدولية بطلب تأجيل التصويت على تقرير ''غولدستون'' في مجلس حقوق الإنسان، والذي حمل إدانة له بارتكاب جرائم حرب، ولا نريد الخوض في خلفيات ولا أسباب ولا مبررات طلب التأجيل وما يثار حوله الآن من جدل ساخن وحاد, خصوصا ما بين الأطراف الفلسطينية، فرفع وتيرة مثل هذا الجدل سوف يزيد من الانشقاق والانقسام الفلسطيني الحاصل فعلا، والأجدى عوضا عن تراشق الاتهامات، وهو تلافي الخطأ أو الخطيئة في طلب التأجيل وذلك بالعمل السريع وقبل أن تبرد الأمور لإعادة الطلب بإجراء التصويت في جلسة عاجلة لمجلس حقوق الإنسان، خصوصا بعدما رفض مجلس الأمن الدولي مناقشة التقرير بطلب ليبيا العضو العربي الوحيد حاليا فيه، ورمي مسؤولية مناقشته على مجلس حقوق الإنسان، وهذا موقف اعتدنا عليه من مجلس الأمن فيما يخص قضايانا العربية، وإن كان ليس عادلا، إلا أنه مفهوم هذه المرة، لكون مجلس الأمن لن يكون أحرص من أصحاب الشأن على شؤونهم، وهذا ما برر به المندوب الأمريكي - مثلا - رفض مناقشة التقرير .
الخسارة الكبرى في تأجيل التصويت تكمن في أمرين: الأول أنه كانت هناك أغلبية من 33 دولة من 42 دولة عضوا في مجلس حقوق الإنسان كانت ستصوت على رفع التقرير لمجلس الأمن أو هيئة الأمم المتحدة بتوصية تحويله لمحكمة الجنايات الدولية، وسوف يكون مجلس الأمن ملزما في هذه الحالة للانصياع لإرادة دولية وقانونية وإلا أكد في حالة استخدام الفيتو ضده اتهامات العقيد القذافي له، كما أنه اختبار حقيقي لمدى التغيير الإيجابي لإدارة الرئيس أوباما، ومع أن قرارات الأمم المتحدة غير ملزمة، إلا أن تبنيها التقرير في حالة رفعه إليها، والأغلبية فيها مضمونه لصالحه، يعتبر مكسبا على الأقل معنويا وأدبيا، وسوف يضع العدو الصهيوني مباشرة أمام إجماع دولي ينعته فيه كمجرم حرب بما ارتكبه من جرائم أثناء شنه لعدوانه ضد غزة، ونحصل بذلك على قرار دولي يصنف كيان العدو الصهيوني كيانا مرتكبا لجرائم حرب وضد الإنسانية يعوض على الأقل إلغاء قرار الأمم المتحدة السابق باعتبار الصهيونية حركة عنصرية، ويكون على الأقل رادعا وإنذارا له للحد مستقبلا من عدوانيته التي أوغل فيها طوال العقود الماضية وتحت مظلة عملية السلام بلا محاسبة ولا معاقبة .
والأمر الثاني في خسارتنا هو أننا كنا إزاء سابقة دولية تحدث لأول مرة في تاريخ صراعنا مع العدو الصهيوني، وهي سابقة تشكيل لجنة تقصي حقائق دولية محايدة وقانونية يسمح لها بإكمال مهمتها، وتخرج بنتائج صريحة ومباشرة تدين العدو بارتكابه جرائم حرب وضد الإنسانية في عدوانه الهمجي على غزة، والتي كانت ستقود حتما كثيرا من قادته السياسيين والعسكريين لمحكمة الجنايات الدولية بصفتهم مجرمي حرب، وهذه هي المرة الوحيدة واليتيمة التي يواجه فيها العدو محاسبة جادة من خلال لجنة دولية ويرأسها قاض متمرس, ولا يشك أحد في موضوعيته كونه يهودي الديانة، بالرغم من سجل هذا الكيان الحافل بالعدوان والجرائم والعنصرية التي ارتكبها منذ اغتصاب الوطن الفلسطيني وتهجير شعبه بالإرهاب من ديارهم وتوطين يهود قدموا من شتى بقاع العالم مكانهم، ممارسا كل صنوف جرائم الحرب والعنصرية والإرهاب كما فعل في ''دير ياسين'' و''جنين'' الفلسطينيتين، و''قانا'' اللبناينة وغيرها من جرائم حفل بها سجله الإرهابي، وفي جميعها فلت من أي حساب وعقاب بفضل حماية أمريكية دائمة ومستمرة .
صحيح بأن هناك من يلفت النظر إلى أن تقرير ''غولدستون'' تضمن أيضا اتهامات لحماس وقوى المقاومة الأخرى، بشبهة ارتكابها جرائم حرب بإطلاقها الصواريخ على مدن ومستعمرات العدو، وأن المضي قدما بتبنيه سوف يساوي ما بين العدو وعدوانه والمقاومة ومقاومتها المشروعة، إلا إن وضع حماس والمقاومة مما يمكن الدفاع عنه بسهولة، خصوصا أن التقرير فيما أقر وجزم بارتكاب العدو جرائم حرب وضد الإنسانية، اعتبر اتهام المقاومة بأن فيه شبهة.
الغريب في ذلك كله أنه في الوقت الذي بتنا نشهد فيه تحولا مهما على صعيد الموقف من كيان العدو أوروبيا على وجه الخصوص، وتهاوي عقدة الخوف من تهمة معاداة السامية، والذي بدأ خلال ردة فعل الشارع الغربي عموما والأوروبي خصوصا حيال العدوان على غزة، حيث شهدت المدن الأوروبية العديد من المظاهرات التي سار فيها عشرات الألوف من الناس وبشكل شبه متواصل تندد علنا بجرائم ''إسرائيل'' ضد الفلسطينيين، وعبر عن هذا الموقف والتحول أخيرا وزير الخارجية السويدي الذي ترأس بلاده الاتحاد الأوروبي حاليا حين أشاد بتقرير ''غولدستون'' واعتبره مستقلا وجديا وخطيرا، وطالب ''إسرائيل'' بالسماح للتحقيق بجرائم الحرب المشار إليها في التقرير، وهو ما دفع بالعدو لشن حملة ضد السويد’ وهددت بسحب سفيرها من استكهولم، وكذلك موقف الاتحاد الأوروبي الرافض والمندد بالاستيطان وإن كان لفظيا، في هذا الوقت الذي بات العدو يواجه بتهم كبرى كتهم ارتكاب جرائم حرب دوليا، لا يزال هناك من يثق بالمفاوضات ويأمل فيها إلى حد التفريط في لحظة تم فيها القبض على العدو بالجرم المشهود، والعمل على إنقاذه من عدالة دولية إن صدقت، مقابل وعود وإغراء بمفاوضات بلا أفق وسلام بلا أسس.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي