مع انعقاد مؤتمر الناشرين.. ماذا يكتب العرب؟

مع انعقاد مؤتمر الناشرين العرب في العاصمة الرياض تطرح هناك عديد من الأسئلة التي تحتاج إلى إجابة دقيقة واضحة على صناع النشر والوعي العربي وحول توجهات الكتابة العربية المعاصرة، والتي إن «ضبطت» توجهاتها فإنها تسهم بالضرورة في الإجابة عن راهن الأمة وحالها، والسؤال هنا، هل أن ما يقدم للقارئ العربي هو ما يحتاج إليه فعلا؟ وهل من صلة بين الكتابة وظروف النهضة المبتغاة؟ وهل يمكن ضبط التأليف بما تلزمه الحاجة، وهل التقدم في التعليم والكتابة ومحو الأمية ينتج معرفة خالصة؟ أم أننا ما زلنا في كتابتنا عالة على ما أنتجه العرب في رحلة الكلمة والفكرة التي امتدت عبر زمان سابق بقرون على لحظة الإسلام الأولى وصولا إلى أزمنته الذهبية؟
الحقيقة الموجعة التي تشخص أمام سؤال الكتابة الراهن حين تبحث مؤسسة الفكر العربي هذا الجانب أولا هي التكرار والاجترار والتقليد ونقص في الهمة البحثية وتواطؤ على القارئ، ومجموعات متكسبة بعضها من بعض في سوق الكتابة، وما هو فارق عن ذلك، فإنه غالبا ما يأتي لم تتعهده وزارة الثقافة ولم يكن ثاويا أمام شروط السوق ولم يرضخ لطلبات الناشرين.
للأسف يبدو الإنتاج الكتابي العربي في غالبيته بعيدا عن المعنى الحقيقي للمعارف، وإذا كنا نحاول اليوم الانطلاق من شعار «كتاب يصدر أمة تتقدم»، فإننا يجب أن نتذكر أننا خلال أقل من ست سنوات كنا أمام مراجعتين ثقافيتين لما نقرأ ونكتب، الأولى تتصل ببدايات القرن الـ 21، ولخصها تقرير «التنمية الإنسانية العربية» الثاني (2003)، والذي أشار إلى ضعف نشر وإنتاج المعرفة في البلدان العربية على الرغم من وجود رأسمال بشري عربي مهم، يمكنه في ظروف مغايرة أن يكوّن بنية أساسية قوية لقيام نهضة معرفية. وانتهى التقرير إلى رؤية استراتيجية لإقامة مجتمع المعرفة في البلدان العربية تنتظم حول أركان خمسة، أولها إطلاق حريات الرأي والتعبير والتنظيم، وضمانها بالحكم الصالح، والنشر الكامل للتعليم الراقي النوعية وتوطين العلم وبناء قدرة ذاتية في البحث والتطوير التقاني، والتحول نحو نمط إنتاج المعرفة في البنية الاجتماعية والاقتصادية العربية، وتأسيس نموذج معرفي عربي عام أصيل ومنفتح.
يوم صدر تقرير التنمية الإنسانية العربية الثاني دق جرس الإنذار لخطر الفقر المعرفي، إذ بين أن إنتاج الكتب في البلدان العربية لم يتجاوز 1.1 في المائة من الإنتاج العالمي رغم أن العرب يشكلون نسبة 5 في المائة من سكان العالم، وأن الكتب الأدبية لم تتجاوز 1945 كتابا في عام 1996 وهو ما يمثل 0.8 في المائة من الإنتاج العالمي. وبين التقرير أن الكتب الأكثر رواجا في العالم العربي تبيع خمسة آلاف نسخة على نحو 280 مليونا من العرب في 22 دولة، كما أن معدل إنتاج العرب من الكتب لا يذكر مقارنة بغيرهم، فقد أنتجت الدول العربية مجتمعة 5600 كتاب في عام 1991 ولم يتجاوز عشرة آلاف كتاب بعد عشرة أعوام في عام 2001، ونحن حتى اليوم نجد أن الإنتاج العربي للكتاب متدن إلى حدوده الدنيا بالنسبة لحجم السكان مقارنة بدول أخرى.
الوقفة الثانية التي تكشف طبيعة البنية المعرفية في الكتابة العربية الراهنة جاءت في عام 2007 مع التقرير الأول للتنمية الثقافية العربية الذي صدر عن مؤسسة الفكر العربي، والذي بين أن هناك تأثيرا سلبيا في مجالات التفكير والتعبير يتسبب في تدني محتوى «مضمون» ما يتم نشره، ذلك أن هناك إشكالية لا بد من مراعاة حدودها وهي تقع بين المبدع والمؤلف والقارئ، وبين رجل الثقافة ورجل السلطة، وبين الثقافة والمجتمع، كما أن مناخ السياسة والثقافة العربية لا يكفل بما فيه الكفاية أمرا أساسيا وأوليا في سلم الحريات العامة وهو حق الاختلاف وحق الانتقاد والتعبير عن الرأي... إلخ.
ومع أن التقرير كشف عن ارتفاع في نسبة الكتب المؤلفة أو المنشورة، حيث وصلت إلى 27809 كتب بمعدل كتاب لكل 11939 فردا إلا أن حالة المؤلف العربي ظلت بائسة ولم تتحسن، وهو بؤس يضاف إلى بؤس مناخات الكتابة وعائداتها المعنوية، وعدم قدرة الكاتب العربي على الاعتماد على فعل الكتابة كخيار لتوفير العيش الكريم. وكما تعتري الكتابة ظروف قاسية ذاتية أحيانا إلا أن الكتابة كنتاج معرفي تتأثر بالظروف المجتمعية من حيث الفقر والبطالة والانكسار والهزيمة والانتصار وانعدام الثقة.
كشف التقرير العربي الأول عن حصيلة الكتابة العربية وخطها الناظم، وجاء فيه أن الكتابة العربية إنتاج العرب الكتابي كالتالي: الأدب والبلاغة 7060 مؤلفا وفي الديانات 5157، وفي العلوم البحتة 1129 أما اللغات فنصيبها 909 والمعارف العامة 960، وفي الفلسفة وعلم النفس714، واحتلت الفنون أدنى السلم بـ 552 مؤلفا. وعليه يبدو جليا أن الكتابة العربية تفتقر إلى الخلق والتجديد، وأن هناك ارتباطا وثيقا بين ظروف المجتمعات وما تنشره، كما تتميز الكتابة العربية بتأثرها المباشر بأحوال مجتمعاتها وارتباطها الوثيق بالموروث ووفائها للتقليد وليس الإبداع والتجديد وانجذابها للماضي ووفائها للتكرار، وعدم القدرة على التجاوز وإحداث قطيعة مع الماضي الراسب فيها بشكل كبير.
إن إقامة نظام للكتابة العربية مرهون بتحديد أولويات النشر وموضوعاته ومراجعة حركة التأليف ومأسستها، ولا يكفي الدعم للكتاب بل يجب التدخل معهم أثناء الكتابة والتشاور معهم خلال إنجازهم لأن المطلوب ليس كتابة لا تضيف معرفة، بل مراكمة للمعرفة عبر الكتابة.
السؤال هنا هل من الممكن ضبط الكتابة، وهل من مراجعات سابقة حدثت لما كتبه العرب؟ لنتذكر أنه منذ زمن الخليفة العباسي المأمون كانت هناك محاولة أولى لتأسيس نموذج معرفي عربي إسلامي، ومن العصر العباسي في زمنه الصعب جاءنا محمد بن إسحاق بن يعقوب النديم البغدادي (الورّاق) الشهير بابن النديم بكتابه «الفهرست» الذي استطاع فيه تصنيف المعرفة الإنسانية، وعُد أول عمل ببليوغرافي في اللغة العربية، وأول خطوة من خطوات الضبط الببليوغرافي العربي، وهو يعد مرآة حقيقية على ازدهار الحضارة العربية الزاهرة في عصره، فمنهج ابن النديم في عمل هذا الكتاب الببليوغرافي يتلخص في أنه قسّم كتابه إلى عشرة أقسام، كلُ منها إلى مقالة، ثم قسّم كل مقالة إلى فنون بلغت 32 فناً، استطاعت استيعاب مختلف العلوم والفنون السائدة في عصره. فقد جمع فيه أسماء الكتب التي كانت معروفة في أواخر القرن الرابع الهجري ورتبها وفق موضوعاتها، ثم ثبّت أسماء مؤلفيها.
تتجلى عبقرية ابن النديم في أنه وضع يده على أول عمل ببليوغرافي في اللغة العربية وبيّن مدى أهمية وخطورة (الضبط الببليوغرافي) للإنتاج الفكري، و»الفهرست» أول عمل شامل من هذا النوع، وقد نشر في العالم الإسلامي وهو مرآة للثقافة والفكر الإسلامي وأول كتاب باللغة العربية يصلنا معرفاً بأقدم ما ألف بالعربية أو ترجم إليها في جميع أبواب المعرفة منذ بدء التأليف وحتى تاريخ تأليف الكتاب، فهو موسوعة ثقافية أو دائرة معارف كبيرة - إن جاز لنا استخدام هذا المصطلح.
وبذلك يكون ابن النديم أول من ألف تاريخاً للتراث العربي قد يكون وحيداً في بابه، ويتضح لنا من المعلومات الواردة فيه ومن المصادر المختلفة للمقالات أن العرب اهتموا في وقت مبكر بتسجيل كتبهم المؤلفة وتصنيفها تصنيفاً موضوعياً. ولكيلا يتبادر إلى الذهن أن «الفهرست» كان كما اعتقد بعض الباحثين مجرد فهرست لمكتبة عامة أو خاصة يحصي ويصنف، لابد أن نشير إلى أن المؤلف في بعض المواضع والموضوعات أسهب وحلل وأرّخ بشكل أضفى على كتابه سمات استثنائية، إذ نرى أنه يتوقف ليورد مثلاً ما يعنونه «حكاية أخرى في أمرهم».
ثم جاءت النهضة العربية الثانية مع محاولة محمد علي باشا في مصر عبر الترجمة والبعثات وهناك نشطت حركة التأليف التي ما زال العرب يتكئون عليها في أمور بحثهم عن نموذج النهضة المنشودة.
أخيراً يبقى السؤال على الأرجح يعاود كل عام في البحث عن معرفة أصيلة، منفتحة، ومستنيرة بعيدة عن النمطية، وهذه الأخيرة هي من علامات الساحة الثقافية الراهنة، فرغم تعدد الأنماط الكتابية وتشكيلات الشعراء والكتاب في كل أشكال الكتابة، إلا أن الأساليب التي يستخدمونها والأنماط الإبداعية التي ينتجونها، فسيادة النمط الواحد دائماً قاتلة، والسيادة الأحادية في أي شيء في السياسة، في الفكر في النقد، في الشعر كانت بين أسوأ ما اقترفته النخب العربية خلال القرن الماضي. كما أن وجود جيل من الكتاب الذين عاشوا تجارب الدولة العربية بكامل تداعياتها كان له تأثير سلبي في الجيل الجديد، حيث أوجد نمطا من الكتابة العمومية تكتب عن العالم العربي أو الوطن العربي، عن الدول العربية أو الأنظمة العربية بمثل ما تكتب عن الطبخ وعذاب القبر وظهور المهدي المنتظر. ولعل شيئا من الحل يكمن في تقنين النشر لدى الهيئات العامة للكتاب ووزارات الثقافة، وتحديد الموضوعات المطلوب الكتابة عنها وتعميق التخصص في النشر، ورفع نصاب النقد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي