نحن بحاجة إلى وزارة للإنشاءات العامة
منذ منتصف الثمانينيات تقريبا حتى أوائل هذا العقد، أي لنحو 20 عاما تقريبا، مرت المملكة بفترة عانت خلالها تراجعا حادا في إيرادات النفط اضطرت معه الدولة إلى الاقتراض لتمويل عجز الميزانية، حيث وصل ديننا العام في أواخر التسعينيات إلى ما يقارب قيمة ناتجنا المحلي الإجمالي. هذا الوضع المالي غير الإيجابي جعل البنى التحتية والخدمات الحكومية الأساسية غير قادرة على مواكبة النمو الكبير في الطلب عليها ناهيك أن تشهد تحسنا، لذا فقد عانينا اختناقات حادة في الخدمات التعليمية والصحية والإسكان وغيرها من خدمات أساسية.
الآن وبعد تحسن أوضاعنا المالية بصورة لم يسبق لها مثيل، حتى بما في ذلك فترة الطفرة في أواخر السبعينيات، فقد أصبحنا نمتلك الموارد المالية التي تمكننا من تغيير هذا الواقع من خلال تنفيذ مشاريع ضخمة تحقق نهضة شاملة تصحح هذه الأوضاع, بل تطور هذه الخدمات بصورة تسهم بفاعلية في تحسين مستويات المعيشة ورفاهية المواطن. يشجع على ذلك أن أزمة المال العالمية وما ترتب عليها من تراجع في أسعار السلع الأساسية وانكماش في النشاط الاقتصادي عالميا أسهمت في تراجع كبير في تكلفة تنفيذ مثل هذه المشاريع ودفعت كثيرا من شركات الإنشاءات العالمية للسعي إلى الحصول على مشاريع في المملكة تعوض تراجع أعمالها في بلدانها الأصلية. بالتالي فهناك فرصة مواتية قد لا تتكرر مرة أخرى لتنفيذ برامج طموحة عاجلة تستهدف توسيع البنية التحية كالمستشفيات والمدارس والإسكان والماء والصرف الصحي والكهرباء وغيرها من مشاريع أساسية بتكلفة متدنية نسبيا مقارنة بما سيكون عليه الحال بعد سنتين أو ثلاث عندما يبدأ الاقتصاد العالمي بالانتعاش بقوة, وتشهد معدلات التضخم العالمية قفزة كبيرة قد تصبح معها تكلفة هذه المشاريع أضعاف ما هي عليه الآن.
الملاحظ أن معظم الأجهزة الحكومية لم تحاول أن تستغل هذه الفترة الاستثنائية لتحسين مستوى خدماتها وفك ما تعانيه من اختناقات وبقيت تتعامل مع هذا الواقع برتابة عجيبة كما لو أننا ما زلنا نعاني شحا في الموارد المالية أو أننا لسنا أمام فرصة مواتية جداً يجب اقتناصها قبل فوات الأوان. فهيئة الإسكان التي مر على إنشائها نحو ثلاث سنوات ما زالت في بيات شتوي ولا يوجد على أرض الواقع أي نشاط لها، ولم نر قفزة هائلة في بناء المدارس وما زالت نسبة كبيرة من مدارس التعليم العام مستأجرة وعدد الطلاب في الفصل الواحد يصل إلى ما يزيد على 50 طالبا، ولم نر مئات المستشفيات تقام في أنحاء المملكة لفك النقص الشديد في حجم ونوعية الخدمات الصحية التي جعلت حصول مريض على سرير في مستشفى حكومي أمرا في غاية الصعوبة إن لم يكن مستحيلا، وما زال هناك آلاف المدن والقرى التي لم تصلها خدمات المياه والصرف الصحي، وهو ما يؤكد أن هذه الأجهزة تفتقر إلى روح المبادرة والمرونة اللازمة للتعامل مع واقع إيجابي استثنائي تمر به بلادنا.
والحقيقة أن وزارة التعليم العالي تمثل استثناء بين جميع الأجهزة الحكومية في هذا الشأن، فالتوسع الهائل في بناء الجامعات الذي شمل كل جزء من بلادنا والمرونة الكبيرة التي أظهرتها هذه الوزارة في إدارة عملية وضع خطط وتصميم وتنفيذ هذه المشاريع مكن الجامعات وفي فترة وجيزة جداً بأن تصبح قادرة على قبول جميع المتقدمين إليها, بل حتى أن يكون لديها آلاف المقاعد الشاغرة في عدد من الجامعات، بينما تظل خدمات أجهزة أخرى تراوح مكانها دون تحسن, الأمر الذي يؤكد أن المشكلة التي تواجه تلك الأجهزة ليست مالية وإنما افتقارها إلى القدرة على تخطيط وتنفيذ مشروعاتها بكفاءة في مرحلة تتطلب مرونة وسرعة في اتخاذ القرار وتنفيذه. هذا الواقع يستدعي وبصورة عاجلة تعميم تجربة وزارة التعليم العالي من خلال إنشاء وزارة للإنشاءات العامة يعهد إليها بمهمة وضع وتنفيذ خطة شاملة عاجلة لتطوير مختلف الخدمات الأساسية خاصة التعليم والصحة والإسكان، حيث تتولى هذه الوزارة وضع وتنفيذ خطط استراتيجية عاجلة تستهدف إقامة مشاريع في مختلف مناطق المملكة تستهدف تحقيق رفع سريع في مستوى الخدمات الأساسية المقدمة للمواطن، بينما تتفرغ الجهات المقدمة لهذه الخدمات لأداء أعمالها التنفيذية، حيث يتم تسليمها ما ينجز من مشاريع لتتولى إدارتها وتشغيلها. فكوننا نمر بمرحلة استثنائية تعني أننا أيضا بحاجة إلى حلول استثنائية, ونجاح وزارة التعليم العالي في أن تكون استثناء من بين عشرات الأجهزة الحكومية في قدرتها على تخطيط وتصميم وتنفيذ مشاريعها يجعل تعميم هذا النجاح من خلال وزارة للإنشاءات العامة أمرا في غاية الأهمية والإلحاح.