التدريب (بلسم الشفاء) من البطالة
تعج مدارسنا وكلياتنا وجامعاتنا بالبرامج الدراسية والمناهج والمواد الأكاديمية التي تعتمد على الكتب المملوءة بالتنظير والأفكار الجميلة، لكنها خلو وقفر من برامج التدريب والتأهيل والإعداد لتكون جيوش الطلاب المتخرجين من المدارس والجامعات متمرسين على ترجمة ذلك إلى سلوكيات ومهارات تمكنهم من الإنجاز والتطبيق والعمل، فالتدريب مفقود أو معدوم أو شديد الضآلة في منشآتنا التعليمية، ونجد أن الشباب والطلاب لا يوجهون إلى ذلك ولا يعانون عليه ولا يوعون به، بل تذهب أعمارهم في التعليم النظري البعيد عن الترجمة إلى الواقع، ويعم ذلك جميع المواد الدراسية سواء كانت مواد علمية كالفيزياء والكيمياء والأحياء أو مواد اجتماعية كالجغرافيا والتاريخ أو حتى مواد اللغة العربية كالقواعد (النحو) والبلاغة أو حتى المواد الدينية كالتوحيد والفقه والتفسير.
والتطبيق والتدريب والترجمة إلى سلوك عملي ومهني يعني أن يعرف الطالب، بل حتى المدرس أولا ما جدوى أن يدرس أي مادة علمية كانت أو اجتماعية أو عربية أو دينية؟ كيف يمكن أن تكون مادة الأحياء مفيدة للطالب في حياته العلمية أو العملية؟ وما الذي يتدرب عليه من ذلك؟ ولماذا يدرس الطالب التاريخ وما الفوائد الجمة التي سيستفيد من ورائها في حياته؟ كيف يمارس التطبيق باللغة العربية بلا لحن ويطبق القواعد والنحو؟ ماذا يعني أن يدرس أسماء الله تعالى وصفاته في مادة العقيدة وكيف يترجم ذلك في حاله وعمله وسلوكه ودينه ودنياه؟ وهكذا.
كل مادة علمية أو اجتماعية أو دينية لا بد أن تعمل برامج أو تطبيقات أو أدوات في كل منهج لممارسة عملية تدريب وتطبيع المهارات لدى الشباب والطلاب.
أحيانا يبدو لي أن هذه المطالبات بالتطبيق والتدريب وتكوين المهارات كان ينبغي أن يدعى إليها ويوعى عنها ويتبناها المجتمع منذ عشرات السنين، فيزداد العجب مني كيف أن أمور التدريب وبناء المهارات والدورات التطبيقية لا تزال غريبة في الحديث عنها، فضلا عن جعلها واقعا عمليا في هذا العصر الذي ازدادت فيه المنافسة وبرزت فيه الأسواق ودور القطاع الخاص والمؤسسات الربحية.
وإذا كان إلحاق البرامج التدريبية والتطبيق العملي وتكوين المهارات بالمناهج الدراسية سيأخذ إجراءات وأوقاتا وسنوات وإمكانات كثيرة فلماذا لا يتم اتجاه المجتمع التعليمي الحكومي والأهلي نحو استغلال فترات الإجازات الطويلة لتسوق برامج الدورات التدريبية وتوفير الإمكانات الحكومية والأهلية لتحقيق التطور المهني والسلوك العملي والتطبيقي أثناء مواسم الإجازات؟ لماذا تترك طاقات وأوقات الشباب والطلاب هدرا في فترات الصيف الطويلة والإجازات المختلفة الأسبوعية والفصلية والموسمية؟ لماذا يترك الطلاب والشباب ليكونوا عادات الكسل والنوم والخمول والدعة؟ بل لماذا يتركون سلما للعادات السلوكية السيئة بالسهر على التجوال في الشوارع وارتياد المقاهي وتناول الوجبات السريعة؟ بل لماذا يحافظ على طاقاتهم و أوقاتهم المملوءة بالفراغ لنحميها من دواعي المخدرات أو المسكرات أو المحرمات أو حتى الانخراط في عصابات الإجرام أو اللجوء إلى طوائف التطرف والإرهاب؟
تتمتع الجامعات الحكومية في السنوات الحالية بموارد مالية ضخمة تستطيع أن توجه جزءا منها نحو التدريب والتأهيل والتطوير للمهارات بين الطلاب.
مع الأسف أن الجامعات توجهت أثناء إجازات الصيف نحو تكريس وترسيخ المناهج الأكاديمية النظرية باتباعها عرض الفصول الصيفية المماثلة للفصول الدراسية الأخرى، لماذا تكرر الجامعة أكاديمياتها في الصيف؟ لماذا لا تحول هذه الموارد المالية في الإجازات الصيفية نحو التدريب والدورات والتأهيل وبرامج التطوير المهني والسلوكي العلمي؟
لعلي أدعو وزارة التربية والتعليم ووزارة التعليم العالي ووزارة العمل إلى إعادة النظر في أولوية التدريب والتطوير المهني العملي وإعطائه أولوية ومكانه وموارد وصياغة خطة عملية تأهيلية مع الخطة التعليمية لتنقذ شبابنا وطلابنا من ويلات البطالة ولتنقذ مجتمعنا من معاناة انخفاض الكفاءة ومنافسة العمال والموظفين الأجانب المواطنين على الوظائف والأعمال.. وما تقوم به المؤسسة العامة للتعليم الفني والتدريب المهني وما يبذله صندوق تنمية الموارد البشرية من جهود مشكورة وقيمة ولكن متطلبات التدريب والتأهيل المهني والعملي يلزم له توجه الدولة والمجتمع برمته لجعله الوجه الآخر للعملية التعليمية، وذلك بدعم مادي ومعنوي لشركات ومؤسسات التدريب وتقويمها والإشراف عليها والبدء بإعداد برامج التدريب لمختلف المراحل التعليمية. ولنتذكر دائما أنه لا جدوى لعلم بلا خبرة ولا شهادات أكاديمية بلا شهادات تدريب وخبرة، لهذا ربط المولى ـ سبحانه وتعالى ـ بين العلم والخبرة لتحقيق الكمال، حيث وردت نصوصها في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، منها قول الله تعالى (إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير).