هيئة الاتصالات والمهمة المعكوسة

عندما يكون هناك تخصيص لقطاع معين, أو يكون هناك دور بارز للقطاع الخاص فيه فإنه يلزم أن تكون هناك جهة حكومية يعهد إليها بمسؤولية تنظيم هذا القطاع ووضع التشريعات التي تضمن حماية المستفيدين من خدماته, كما تقع على عاتق هذه الجهة مسؤولية مراقبة تطبيق تلك التشريعات ومعاقبة المخالفين, فالمؤسسات الخاصة هدفها الأساس تحقيق أقصى مستوى من الربحية, وهي في سعيها إلى تحقيق هذا الهدف لا تتوانى عن اتخاذ أي إجراء يحقق لها ذلك, ولن تتردد مطلقا في تقديم مصالحها الضيقة على مصلحة المجتمع، بل حتى عن تقديم مصالح مسؤوليها والقائمين عليها على حساب مصلحة المنشأة نفسها على المدى الطويل. في ظل الفصل بين الإدارة والملكية, الذي يصبح ضروريا مع نمو المنشآت، تتعمد المنشآت إخفاء الأخطاء والتركيز على إظهار النتائج الإيجابية سواء كانت تلك النتائج حقيقية أو مفبركة. ولعل أحد أهم دروس أزمة المال العالمية، إن لم يكن أهمها جميعا، أن غياب التشريعات المناسبة وضعف الرقابة على تطبيقها وافتراض أن القائمين على المؤسسات الخاصة لا يحتاجون إلى من يراقب تصرفاتهم, وأنهم دائماً يسعون إلى تحقيق مصالح مؤسساتهم, وأن هذه المصالح بالضرورة متطابقة مع مصلحة المجتمع, لم يكن إلا وهما كبيرا كان له دور أساس في حدوث هذه الأزمة التي جعلت المجتمعات في تلك البلدان تدفع ثمناً باهظا لتصرفات غير مسؤولة ارتكبها مسؤولو عديد من المؤسسات المالية، فالمجتمعات غير شريكة في الربح إلا أنها ستكون دوماً مجبرة لأن تكون شريكة في الضرر ومتحملة لنتائج الأخطاء المرتكبة.
هيئة الاتصالات وجدت لحماية المصلحة العامة في قطاع مخصص عرضة لحدوث تجاوزات تضر بالمستفيدين, الأمر الذي يجعل من الضروري وضع تشريعات صارمة يلتزم مقدمو الخدمة بالتقيد بها بدقة, ولم توجد الهيئة لحماية شركات القطاع من المنافسة, كما يبدو أن الهيئة تفهم مهمتها. من خلال خلق بيئة تنافسية تجبر الشركات على التنافس فيما بينها لرفع كفاءة أدائها يتم تمرير مكاسب هذا الأداء العالي إلى المستفيدين من الخدمة من خلال تحسن مستمر في الخدمات وانخفاض متواصل في تكلفتها عليهم، كما يصبح القطاع أكثر قوة باعتبار أن كل من فيه سيبذل كل ما في وسعه لتحسين أدائه, فمن لا يستطيع رفع كفاءته لن يتمكن من البقاء في السوق. أما عندما يحد من المنافسة خشية ألا تكون الشركات المترهلة قادرة على مجاراة الشركات الأكثر كفاءة فإن كل ما يتحقق من هذا التنافس المقيد هو ارتفاع في معدلات ربحية الشركات الأكثر كفاءة ويحرم المستفيد من الخدمة من جني أي فوائد، ولعل الارتفاع الكبير في أرباح إحدى شركات هذا القطاع يؤكد ذلك بكل وضوح. هذا الوضع غير السليم قد يتسبب أيضا على مدى أبعد في أن تجد الشركات المرتفعة الربحية أنها في وضع آمن يجعلها تتراخى في ضبط مصروفاتها ما قد يتسبب في تراجع كفاءة أدائها مع مرور الوقت، فهذه الربحية غير الحقيقية الناتجة عن تقييد المنافسة بين شركات القطاع ينتج عنها بالضرورة تصور مبالغ فيه عن حقيقة كفاءة أداء تلك الشركات، رغم أن هذا الأداء قد يكون ناتجا مثلا عن كونها شركة جديدة لم ترث تركة ثقيلة كما هو حال بعض منافسيها ما مكنها من تحقيق معدلات ربحية أعلى في ظل هذا الرفع القسري لأسعار خدماتها.
وإذا أخذنا في الحسبان أننا مجتمع استهلاكي من الدرجة الأولى وأن خدمات الاتصالات لم تعد ترفاً, بل خدمة أساسية يحتاج إليها كل شخص بغض النظر عن مستوى دخله وظروف معيشته, فإن استمرار أسعار خدمات الاتصالات بهذا الارتفاع الحاد بسبب منع قيام منافسة حقيقية بين شركات القطاع يلحق بالغ الضرر بمستويات معيشة الأفراد ويزيد معاناتهم المالية ويجعل هذا القطاع مستنزفاً لدخول أفراد المجتمع بصورة غير مبررة، وهيئة الاتصالات يجب أن تدرك أنها وجدت لحماية المستفيدين من الخدمة وليس لتمكين مقدمي الخدمة من تفادي تحمل ثمن أخطائهم الإدارية والاستثمارية. كما يجب ألا تكون الهيئة حجر عثرة أمام تحسن خدمات الاتصالات وانخفاض تكاليفها على المستفيدين، وهي ستكون كذلك عندما تمنع شركات الاتصالات من تخفيض تكلفة خدماتها، أو تتغاضى عن المعوقات التي تضعها شركات القطاع أمام المستفيدين المتضررين من سوء الخدمة في حال رغبتهم في ممارسة الحق المكفول لهم نظاما بالتحول من مقدم خدمة إلى آخر، أو عندما تصمت عن تجاوزات هائلة تقوم بها بعض شركات القطاع في تقدير تكاليف خدماتها فتحمل المستفيدين مبالغ باهظة غير حقيقية ومن لا يدفع تقطع عنه الخدمة ويشوه سجله الائتماني دون أن يلقى الحماية التي يستحقها من الجهة التي يفترض أنها وجدت لخدمته والدفاع عنه.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي