من يحارب لغة القرآن .. وكيف؟
ما يثير الاستغراب الشديد، ويضع علامات استفهام كبيرة وبما يوحي بأن لغتنا العربية الفصحى لغة القرآن تتعرض فعلاً لموجة جديدة من الحرب والتآمر عليها, والتي لم تتوقف منذ عقود طويلة، هو أنه في حين أن كل أمم وشعوب الأرض قاطبة تغار على لغاتها الوطنية وتحافظ عليها وتعمل على إحيائها وتنميتها وتدافع عنها بشراسة, معتبرة المساس بها عدوانا عليها، تجد لغة الضاد بكل قيمتها اللغوية والدينية والقومية وعمرها الذي تجاوز ألفي عام وبصماتها اللغوية على عشرات اللغات الأخرى بما فيها اللغة الإنجليزية، حيث تحتوي على مئات الكلمات من أصول عربية، تجد مثل هذا الإهمال والتهميش, بل والحرب الضروس عليها من قبل أبنائها والمنتمين إليها قبل أعدائها وخصومها ممن يسعون لتفريق وحدة الأمة وقطع صلتهم بدينهم وتراثهم من خلال إضعاف لغتهم الجامعة لهم، ومما يؤسف له حقاً أنه في الوقت الذي تسعى فيه شعوب إسلامية غير عربية لنشر تعلم اللغة العربية والعناية بها لأغراض دينية وثقافية أو تجارية، كما هو الحال في أوكرانيا، حيث بدأت تنتشر مدارس تعليم العربية التي وصل عددها لأكثر من 40 مدرسة، وبات عدد طلابها بالآلاف من كافة الطبقات، نتوسع نحن في تعليم لغات أجنبية ونشرها لتكون هي لغة الجيل الجديد العلمية والتجارية، ولو علموا كيف نقوم نحن أبناء العربية بتهميشها واستبعادها من التعليم والتجارة، لوجهوا أبناءهم لتعلم الإنجليزية بدلا من العربية لكونها المستخدمة بيننا أكثر من لغتنا العربية..!!
وما يثير أيضا الاستغراب الأشد مرارة هو أن من يقود هذه الحرب على اللغة العربية هم من أبنائها والمنتمين إليها وتحديدا فئة من الأكاديميين وكثير من قطاع التجارة والأعمال، فهناك وبكل أسف صنف من الأكاديميين يدفع ويشجع على التوسع في استخدام اللغة الإنجليزية في التعليم الجامعي خصوصا، ويحارب كل أوجه التعريب بحجة أن اللغة العربية قاصرة وغير صالحة للتعلم والتعليم والعلم، وجميع هؤلاء هم ممن حصل على شهاداته من جامعات غربية، وتلقى تعليمه العالي باللغة الإنجليزية، فوجد أنه من السهل عليه التدريس في جامعاتنا العربية بنفس اللغة الأجنبية التي تعلم بها لفقره وعجزه عن استخدام العربية لعدم إتقانه لها، وهو ما دفع بهذه الفئة الأكاديمية، المتغربة لسانا والتي بلينا بها، لإبعاد العربية عن التدريس بها في الجامعات بحثا عن السهولة, وحتى لا تطالب باستخدام لغة لم تعد تتقن إلا عاميتها، وتفتقد ملكتها اللغوية حتى في حديثها الدارج، أو حتى لا تطالب بتعريب العلوم التي تدرسها بترجمة الكتب الأجنبية، أو بتأليف كتب باللغة العربية التي لم تعد تحسنها بكل أسف، وشاهدي على ذلك أن معظم إن لم يكن جميعهم يندر أن يتحدث بالعربية دونما خلطها بكلمات إنجليزية، وهذا التوجه أثر سلبا في النشء الجديد وفي ارتباطه بقيمة وأهمية لغته الأم وهو يراها تنبذ وتستبعد من الجامعات والتعلم بها.
أما قطاع التجارة والأعمال، فإسهامه في محاربة اللغة العربية بارز وواضح في أمرين، الأول دوره في نشر المسميات الأجنبية بدلا من العربية، بالرغم من وجود قرار رسمي بمنع ذلك، فيقوم أحدهم باختيار مسمى أجنبي وليس عربيا لشركته وسوقه ومحله وبشكل مستفز ومستهجن وبدون ضرورية كأن يكون هذا المسمى علامة تجارية عالمية، وهو ما بتنا نشاهده في شوارعنا وأسواقنا وكأننا لسنا في دولة هي مهد العروبة والإسلام. والثاني في استبعاد العربية عن تعاملات وأعمال معظمها الداخلية، وفرض اللغة الإنجليزية على العاملين فيها واعتبارها أول شروط العمل والتوظيف، وجعلها لغة العمل المستخدمة حتى بين موظفيها العرب. واتصل على أي شركة من هذه الشركات فسوف يأتيك الرد بالإنجليزية وليس بالعربية.
من أبرز وأهم الأسباب التي أدت إلى إضعاف اللغة العربية بين أهلها يعود أساسا لغياب سياسة لغوية عربية تحرص على الفصحى وتجعلها لغة مجالات الحياة المختلفة، وليس اللهجات العامية أو لغة أجنبية، فالدول الأوروبية على سبيل المثال اتبعت سياسة لغوية تفرض فيها استخدام الفصحى من لغاتها في التعليم والإعلام والإدارة والتجارة، حتى يعتاد سماعها واستخدامها، ولهذا ففي فرنسا مثلا يوجد قانون يعاقب من يخطئ في اللغة الفرنسية في الإذاعة والتلفزة والمدرسة لأنه يفسدها، وفي كوريا الجنوبية يتم التعليم بكافة مراحله باللغة الكورية الفصيحة، وعملوا بدأب لإحلالها محل اللغة اليابانية التي فرضت عليهم أثناء الاحتلال الياباني لكوريا، واهتمامهم وعنايتهم بلغتهم واضح في أن (110) قنوات تلفزيونية جميعها خاصة ما عدا واحدة حكومية، تبث باللغة الكورية الفصحى تحت متابعة ومراقبة الحكومة الكورية، ولم يستعر الكوريون لغة أخرى وهم يتحولون لدولة صناعية متطورة، بل حافظوا على لغتهم الوطنية التي لم يقل أحد منهم إنها لا تصلح كلغة علم وتعلم، واليابان وهي تستسلم في الحرب العالمية الثانية قبلت كل الشروط ما عدا شرط تخيلها عن لغتها القومية في التعليم، وفي إيران استعادوا لغتهم الفارسية بالكامل بعد أن كانت اللغة العربية هي اللغة الأولى، ولعل أهم وأبرز مثال هنا هو اللغة العبرية التي قام اليهود بإحيائها بعد أن كانت مندثرة ومنقرضة لتصبح لغتهم الوطنية في دولتهم المغتصبة، لكون اللغة جزءا مهما من الهوية الوطنية، على الرغم من أن اليهود قدموا من خلفيات لغوية مختلفة.
السؤال الذي يفرض نفسه الآن: هل نكون نحن أقل فهما وإدراكا وحمية واعتزازا بلغتنا القومية ولغة كتاب الله عز وجل من كل شعوب الأرض..!!؟ ونكمل الأسبوع المقبل.