الصناعة كخيار استراتيجي لتنويع القاعدة الاقتصادية .. الشراكة بين القطاعين العام والخاص
تطرقنا في الجزء الأول من هذه المقالة إلى جملة من التحديات التي تواجه تنفيذ مشروع الاستراتيجية الصناعية الوطنية, وسيتم في هذا الجزء استكمال استعراض أبرز تلك التحديات, إضافة إلى رؤية لحلول ربما يستحق بعضها مزيدا من الدراسة والتمحيص.
كان ولا يزال أحد الخيارات المطروحة أمام الدولة لمواجهة التحديات يتمثل في دعم القطاع الخاص, القيام بدور مكمل للدور الذي تنهض به الحكومة في تنمية القطاعات الاقتصادية غير النفطية وفي مقدمتها قطاع الصناعة التحويلية. ولهذا الغرض أنشأت الحكومة صناديق تمويل متعددة قامت بدورها بمنح القروض الميسرة للصناعيين، وصاحب ذلك تقديم الإعفاءات الجمركية والاستثمار في تطوير البنية التحتية وتقديمها بأجور رمزية, ثم فوق ذلك استبعد خيار فرض ضرائب على الدخل. وكان الهدف الأساسي من هذه السياسات تمكين القطاع الخاص من إقامة منشآت صناعية منتجة تكون بمثابة روافد تدعم الاقتصاد الوطني وإيجاد فرص عمل للأجيال المتعاقبة في مؤسسات القطاع الخاص جنبا إلى جنب مع الفرص المتاحة في الأجهزة الحكومية. وعلى هذا الأساس كان للحكومة دور محوري في خلق القطاع الخاص في المملكة ومده بمقومات الحياة والنمو منذ فترة الطفرة النفطية مطلع الثمانينيات حتى يومنا هذا، حيث أغدقت بسخاء مما أفاء الله عليها من موارد مالية على رجال الأعمال, وكانت المملكة في حينها ورشة عمل ضخمة وفرت فرصا مجزية لكل من استغلها في مختلف القطاعات الاقتصادية. وبعبارة أخرى فإن منشأ القطاع الخاص في المملكة منشأ ريعي، وهو بالتالي مدين للثروة النفطية. في المقابل فإن رجال الأعمال في الدول الصناعية يمتازون بأنهم هم الذين صنعوا ثرواتهم وقاموا ببناء دولهم بكدحهم وإبداعاتهم وابتكاراتهم. وهؤلاء يمتازون أيضا بما يقدمونه من هبات ضخمة لدعم جمعيات النفع العام، والجامعات، ومراكز الأبحاث مدفوعين بشعورهم بالمسؤولية الاجتماعية النابع من فهم عميق للدور الذي تقوم به تلك المؤسسات في التنمية الاجتماعية والاقتصادية. وعلى الرغم من أن نسبة متزايدة من رجال الأعمال في المملكة يبدون اهتماما كبيرا بالتزاماتهم الاجتماعية ولا يتملصون من القيام بدورهم الوطني في تأهيل وتوظيف العمالة الوطنية إلا أن نسبة هؤلاء ما زالت قليلة, ويبقى الصوت المرتفع هو صوت أولئك الذين لا يفوتون أي فرصة للشكوى من تراجع الدعم الحكومي لرجال الأعمال وكأنهم لم ينهوا مرحلة الفطام بعد!
المطلوب اليوم شراكة حقيقية بين القطاعين العام والخاص لمواجهة التحدي الأكبر الذي يواجه المملكة المتمثل في توفير فرص وظيفية ذات مردود عال للمواطنين. وهذا هو أحد محاور الاستراتيجية الصناعية الوطنية في المقام الأول. ومن المهم تجاوز أخطاء الطفرة الاقتصادية الأولى بربط الإنفاق الحكومي السخي بالمردود الاجتماعي والاقتصادي الذي يتحقق من المشاريع الصناعية المطورة من قبل القطاع الخاص, وكذلك الأمر بالنسبة إلى التسهيلات والحوافز لجعل العملية متوازنة بحيث يأخذ المستثمر بقدر ما يقدم .. وهذا هو الأساس لشراكة ناجحة ومستمرة بين القطاعين العام والخاص.
الموارد البشرية .. الداء والدواء
تنمية الموارد البشرية تحد كبير لا يقتصر على المملكة فقط بل يتعداها ليشمل عديدا من دول العالم. وهذا التحدي الذي يواجه المملكة اليوم يتمثل في شقين:
أولا: تركيبة هرم قوى العمالة الوطنية
يشكل الخلل وعدم التوازن في هرم القوى العاملة الوطنية أحد المسببات التي أدت إلى طغيان نسبة العمالة الأجنبية في المهن الفنية تحديدا, التي بدورها تسببت في ارتفاع معدلات البطالة بين المواطنين بما لها من آثار سلبية اقتصاديا واجتماعيا. وهذا الخلل يعود في الدرجة الأساس إلى مخرجات العملية التي أفرزت تشوها في هرم وتركيبة العمالة الوطنية. ووفقا لدراسة حديثة أعدها البنك الدولي فإن التركيبة المثلى لهرم القوى العاملة الوطنية تتطلب أن تكون مخرجات مؤسساتنا التعليمية وفقاً للنسب التالية: في مقابل كل خريج جامعي نحتاج في حدود 1 - 3 تقنياً (من خريجي الكليات والمعاهد التقنية) وفي حدود 10 - 20 عاملا ماهرا أو فنياً (من خريجي الثانويات الفنية والمهنية) كل حسب اختصاصه وطبيعة عمله. وغني عن القول أن المعيار هنا ليس فقط كميا بل نوعي أيضا. وما يستدعي التنبيه إليه في هذا السياق الزيادة المتنامية في أعداد الخريجين الجامعيين على حساب خريجي المعاهد الفنية والثانويات التقنية, التي تمثل تحديا كبيرا يستدعي سرعة المعالجة، ويصبح التحدي أكبر إذا ما علمنا أن التخصصات النظرية والإنسانية ضمن الجامعات الوطنية هي التي يفضلها الطلبة في العادة لسهولة مقرراتها النسبية. والمشكلة هنا عدم وجود وظائف مكتبية تستوعب أعداد هؤلاء المتنامية. وتصحيح هذا الخلل يحتاج إلى فترة زمنية طويلة نسبيا. وأحد الحلول الآنية لمعالجة هذه المشكلة تكمن في تأهيل وتدريب هؤلاء بصورة مكثفة بما يصقل إمكاناتهم بالصورة التي تمكنهم من العمل بكفاءة عالية في شتى المجالات المتاحة. وبموازاة ذلك من المهم تكثيف الجهود لاستقطاب أعداد أكبر من الطلبة نحو التعليم المهني وتطوير مخرجاته لأن الكوادر المهنية الوطنية تمثل نقطة الاختناق الرئيسة في مجال توطين فرص العمل الفنية. ومن المهم هنا العمل على تغيير نظرة المجتمع إلى التعليم المهني والفني كي يشكل دافعاً قوياً ومشجعاً للشباب على التوجه نحو التخصصات الفنية واكتساب المهارات الفنية المختلفة, خاصة في وجود حوافز تمنحهم مزايا أفضل عند التوظيف.
لكن كل هذه المعالجات تبقى قاصرة إذا لم تصاحبها قناعات تامة لدى المواطنين الشباب بأن فرص العمل المتاحة أمامهم هي رهن بإمكاناتهم من حيث المهارات المكتسبة واستعدادهم للأخذ بروح المبادرة والاعتماد على النفس وتأكيد ثقة المجتمع بقدارتهم على العمل والأداء بخبرات متراكمة وإنتاجية عالية. في اقتصاد العولمة لا يكفي أن يكون العامل مواطنا ليحصل على عمل بعائد مالي جيد . ودون تعليم عالمي المستوى لن يستطيع السعوديون منافسة العمالة الأجنبية في بلدهم أو في بلدان أخرى على فرص عمل قد تنتقل إلى أي موقع في العالم. وهذه المعطيات تؤكد أنه من دون إصلاح الخلل في التعليم العام والمهني ستستفحل المشكلة أكثر في المستقبل .
ثانيا: مواءمة المخرجات التعليمية متطلبات سوق العمل
تشكل مواءمة البرامج التعليمية متطلبات سوق العمل كانت وما زالت إحدى أولويات مخططي السياسات التعليمية والاقتصادية في دول العالم, المتقدمة منها والنامية على حد سواء. واكتسبت هذه المواءمة أهمية مضاعفة في السنوات الأخيرة بسبب المتغيرات الاقتصادية والتطورات التقنية المتسارعة التي أدت إلى حصول تحولات جذرية ومستمرة في طبيعة وسائل الإنتاج, الأمر الذي قاد بدوره إلى تغييرات مهمة في أنواع المهن والحرف وأنماط الإنتاج التي تتطلبها سوق العمل. وبدأ هذا التحول على وجه الدقة في السبعينيات من القرن الميلادي الماضي، وتبلور بوضوح في الثمانينيات عندما بدأت الصناعة في استبدال آلات الإنتاج التقليدية بوسائل إنتاج مؤتمتة. ونتيجة هذه التحولات أصبحت سوق العمل في حاجة إلى عمالة أقل تتمتع بمهارات عالية, الأمر الذي أضعف الطلب على العمالة المتوسطة التأهيل التي كانت قوام القطاع الصناعي قبل تلك الفترة الزمنية.
وكانت تلك التحولات سريعة ومتلاحقة بشكل لم يتح للمؤسسات التعليمية ـ سواء في البلدان المتقدمة أو النامية ـ مواكبة التغيرات الهيكلية في سوق العمل، ما كشف عن عمق الفجوة بين مخرجات التعليم وحاجات سوق العمل. وكنتيجة مباشرة لذلك برزت حاجة ملحة إلى إجراء تغييرات جذرية في مناهج التعليم من أجل إعداد عمالة ماهرة قادرة على تلبية متطلبات سوق العمل المتغيرة. ومن منطلق أن ديناميكية سوق العمل، وتنوع احتياجاتها باستمرار قد تجبر العامل على تغيير عمله عدة مرات خلال حياته المهنية، لم تعد مهمة المؤسسات التعليمية تنحصر في تعليم الطالب مهارة محددة .. بقدر ما صار التوجه إكسابه مهارات عدة تتيح له التمرس على عديد من المهن في حياته العملية، الأمر الذي يضاعف فرص العمل المتاحة له.
ولتحقيق هذا الهدف سعت الدول الصناعية ـ على وجه التحديد ـ إلى إحداث آليات جديدة لربط التعليم باحتياجات سوق العمل، منها على سبيل المثال : توأمة المدارس الثانوية والكليات التقنية بالمؤسسات الصناعية, لكن على الرغم من ذلك فإن المنظومة التعليمية في تلك البلدان، لم تتمكن بعد من تحقيق هذه المعادلة .. وإذا كان هذا شأن الدول الراسخة في التقدم العلمي والاقتصادي فماذا عن واقع الحال عندنا؟
قد لا أبالغ إذا قلت إن التعليم العام ضعيف جدا في المملكة ونسبة كبيرة من القراء تتفق معي على أن من يتقاعد اليوم هم أفضل تعليما وعمقا في التفكير من الشباب الذي يدخلون سوق العمل. ولا يختلف الحال في قطاعي التعليم العالي والفني اللذين لا يزالان مصممين لخدمة مجتمع رفاهية واستهلاك، ومغيبين عن الشروط الموضوعية لخلق قوة عمل تناسب التحديات المطروحة. وهذه الحقيقة، التي يجسدها وجود نسبة كبيرة من العمالة الوافدة مع وجود أعداد كبيرة من خريجي الجامعات والكليات، تستند إلى مجموعة من المعطيات، أبرزها:
- طغيان الجوانب النظرية في المناهج التعليمية على الجوانب التطبيقية، الأمر الذي يؤدي إلى ضعف مستوى الخريجين، وبالتالي يقلل من إمكانية حصولهم على فرص عمل منتجة وذات مردود اقتصادي يناسب تطلعاتهم.
- غلبة صفة عدم مواكبة المستجدات التقنية في المناهج الدراسية الحالية، فعلى سبيل المثال لا تزال أغلبية الجامعات والمعاهد الفنية تدرس برامج تجاوزها الزمن في علوم الحاسب الآلي، أو بعض العلوم الهندسية.
- غياب التكامل بين مناهج التعليم العام (الثانوي) وبرامج التعليم العالي، الأمر الذي أحدث فجوة بين المرحلتين، وأدى إلى تراجع الجودة النوعية لمخرجات التعليم العالي والفني.
- تواضع مخصصات مؤسسات التعليم العالي والفني، الأمر الذي أدى بدوره إلى عجزها عن استقطاب أفضل الكوادر التعليمية من جهة، وعجزها عن تدريب وتطوير مهارات القائمين بالتدريس فيها من جهة أخرى.
- وجود حالة انفصام بين المؤسسات التعليمية والاقتصادية، يجسده عدم إشراك المتخصصين من المؤسسات الاقتصادية في وضع وتطوير المناهج، وهؤلاء هم الأقدر على التعرف على الاحتياجات الفعلية لسوق العمل والأكثر مواكبة للتحولات والتطورات التقنية.
ووفقا لهذه المعطيات، فإن إيجاد الموازنة الدقيقة أو المواءمة بين مخرجات مؤسسات التعليم العالي والفني ومتطلبات سوق العمل تتطلب تطوير مناهج التعليم في اتجاه التحديث المتواصل لمحتويات البرامج، وإيجاد قنوات للتنسيق والتكامل مع برامج التعليم العام، وتكثيف وتنويع الجرعات التعليمية من أجل إكساب الطلاب تكوينا أساسياً متنوعاً وشاملا يمكنهم من الاستجابة للمتغيرات التي تحدث في مجال تخصصاتهم، ويكسبهم في الوقت ذاته مهارات عدة تتيح لهم التمرس على عديد من التخصصات والمهن في حياتهم العملية. لكن لا بد من الاعتراف بوجود كثير من الصعوبات التي تحول دون تعديل مسار التعليم والتدريب الفني، من بينها صعوبات اجتماعية ومالية، وهي مشكلة لا بد من مواجهتها، إن أردنا تفادي تحول ظاهرة بطالة أعداد متزايدة من خريجي الجامعات والكليات التقنية والمعاهد الفنية إلى ظاهرة مستعصية تصعب السيطرة عليها.
رؤية ومقترحات
التحديات الواردة آنفا تضاف إليها مجموعة أخرى من التحديات ومعظمها لا تقع ضمن نطاق مسؤوليات وزارة الصناعة والتجارة. وهذا ما يستدعي أن يلعب المجلس الاقتصادي الأعلى دورا فاعلا في تبني الأولويات التي حددتها الاستراتيجية الوطنية الصناعية ومتابعة مراحل إنجاز خططها التنفيذية. وإضافة إلى التحديات الداخلية تلوح في الأفق تحديات خارجية مطلوب أن تأخذها الاستراتيجية في الحسبان, خصوصا وهي تسعى إلى رفع نسبة الصادرات الصناعية المتمثلة في ظاهرة تنامي الحمائية وسياسات تفضيل المنتجات الوطنية في عديد من الدول الصناعية وما يمكن أن يشكل ذلك من آثار سلبية على صادرات صناعاتنا الوطنية، وهذا ما يستدعي الإسراع في إطلاق هيئة تنمية الصادرات.
ولعلي لا آتي بجديد إذا قلت إن طموحات المملكة ومشاريعها التنموية تفوق بمراحل إمكانات الأجهزة الحكومية المادية والبشرية ومن ضمنها وزارة الصناعة والتجارة. وهذا الأمر يفسر الدعوات المتكررة من قبل الصناعيين لإعادة فصل الصناعة في كيان وزاري مستقل. وقد يكون من المناسب التفكير جديا في تشكيل هيئة عامة للصناعة في المملكة تدمج كل الهيئات والمؤسسات ذات الصلة بالقطاع الصناعي وتقضي على ازدواجية الأدوار في هذا القطاع . وقد يكون من المناسب أيضا التفكير في توسيع إطار عمل الهيئة الملكية للجبيل وينبع التي تمتلك خبرات متراكمة وسجلا مشرفا من النجاحات في تطوير البنية التحتية وإدارة المدن الصناعية في المملكة.
خلاصة القول إن الاستراتيجية الصناعية الوطنية يجب أن تكون حلقة في سلسلة من الخطوات المترابطة التي لا تغيب عنها الرؤية والهدف.. فمسيرة التصنيع في المملكة هي رحلة لقهر التحديات تثبت أن الإصرار ورؤية المستقبل هما المدد الحقيقي لكل مجتهد في سعيه نحو التميز والنجاح.