غزاة المساهمات وقوارضها

إن تحقيق التنمية الاقتصادية الفاعلة والهادفة لا تتأتى إلا بتوافر وانسياب مصادر التمويل، كلما تعددت وتنوعت مصادر التمويل كانت التنمية ممكنة التحقيق. كنا وحتى أوائل السبعينيات نعاني شحاً في مصادر التمويل وقلتها إن لم تكن ندرتها، وكانت تتركز في البنوك التي كانت محافظة ومتحفظة عدداً وأداء ودورها الخجول، أما تمويلها فلم يكن للعامة بقدر ما هو للخاصة من رجال الأعمال. المصدر الآخر هو الصرف الحكومي الذي كان موجها إلى البنية الأساسية. أما دور رجال الأعمال الاستثماري فكان متواضعا ومحدودا فيما يخص مصالحهم.
هذا الوضع التمويلي المتواضع تحسن ثم تطور كثيرا في أواخر السبعينيات، بل انطلق بفضل انفتاح الباب لقطاع الشركات المساهمة التي أتاحت للمواطنين من جميع الشرائح أن يستثمروا مدخراتهم قلت أو كثرت في سوق الأسهم المتنامية، هذا المصدر فتح الباب على مصراعيه. وأسهم المواطنون بمختلف قدراتهم أفرادا أو مؤسسات في سوق الأسهم تأسيسا ومساهمة، بيعا وشراء, ما أدى إلى دعم عريض وواسع لقطاع الاستثمار، وعلى أثر ذلك وبسببه توافرت في السوق رؤوس أموال ضخمة تبحث عن مجالات الاستثمار، ونتيجة لذلك تكونت شركات خدمية وصناعية وزراعية ومالية كبيرة في حجمها وكمها. وصار لدينا إحدى كبرى أسواق الأسهم إقليمياً وتحولت هذه السوق إلى شركة تداول ذات الدور الإقليمي.
السؤال الذي يؤرق الكثير هو: كيف يمكننا تفادي تجربة شبيهة بانهيار الأسهم عام 2008، الذي على أثره فقدت شرائح كبيرة من المواطنين ثرواتهم وتلاشت سوق الأسهم وتجمد الاتجاه لإصدار أسهم جديدة في السوق، ويقال إن عدد الشركات السعودية التي أجلت إصدارات أسهمها الأولية بلغ 50 شركة، وكانت هذه الإصدارات تهدف إلى الحصول على ما لا يقل عن 150 مليار ريال من رأس المال. الذي يجب أن نعيه أن الانهيارات تعود إذا لم نتفاداها, والانهيار كالفيروس القاتل له أشكال وألوان. وإذا لم نحترس فسيعود بشكل من أشكاله الأخرى. ولأسباب أخرى، أو لسوء أداء غير مقصود في السوق، أو لعدم بذلنا مجهودا لتفادي أخطاء تعانيها السوق، من انتهازية، وسوء تصرف ومجازفات واستغلال البعض للبعض والخروج عن القواعد، وهذه ممارسات خاطئة من الصعب تحديدها، مجريات الأمور لا تنفي دلائلها.. وأذكر بعضها:
هناك انطباع أن تقييم بعض الشركات العائلية عند تحويلها إلى مساهمة كان مغالي فيه، بعض هذه الشركات يقال ليس لديها من الأصول ما يدعم علاوتها. أي أنهم أخذوا أكثر مما يستحقون. الانطباع الآخر أن بعض هذه الشركات العائلية هدفها أن تخرج من السوق بشيك كبير، وترمي همها على شرائح المساهمين، وذلك بدلا من أن يكون رأس المال الجديد للتوسع والنمو... لو أتى مستقل ليقيم أداء وتجربة هذه الشركات العائلية التي تم تحويلها.. سيجد شيئا ما يؤكد هذه الانطباعات.
زيادة رأسمال الشركات خصوصا المتعثرة منها تعود وتتكرر في الفترة الحالية, وهذه شركات تاريخها غير مريح، وهذا لا يعني أن هذه الشركات بزيادة رأسمالها أنها ستنجح أو أن لديها خطة قابلة للتنفيذ. هناك شعور بأن زيادة رأس المال لبعض هذه الشركات ما هو إلا حيلة ولوسيلة لدفع ما عليهم من التزامات ومن مديونيات ومن حقوق لموظفيها... ليتبخر هذا المال وتعود الشركة كما كانت عليه. ما كل شركة مساهمة بتاريخ طويل من التعثر قابلة للإنقاذ، فإفلاسها خير من إفلاسها بالمواطن. زيادة رأس المال لهذه الشركات المتعثرة وما أكثرها أمر يتطلب تعمقا في الدراسة لحماية المواطن العادي, أي المساهم العادي الذي تحمل جميع المقالب في هذه السوق.
أخيرا.. هناك ظاهرة مخيفة ومريعة وهي ما يسمى (الغزاة), غزاة مجالس الإدارات، أو غزاة الشركات المساهمة، تخصص يقوم به بعض ممّن لا أقول خبثاء السوق وإنما انتهازيوه. إنها مجموعة ماكرة ومتخصصة وبارعة في الاستيلاء على مجالس إدارات الشركات المتعثرة، والسيطرة على مجالس إدارتها، ووضع خطط ماكرة تقنع المساهم البريء في سوق الأسهم بمكاسب كبيرة، أو تسويق فكرة جديدة، ومن ثم ترتفع الأسعار، وحالاً يبدأون في بيع ما جمعوه من الأسهم، وعند انتهاء فترة مجلس الإدارة يودعون الشركة ويحصلون على إبراء الذمة. هذه الفئة يسمونها (القوارض), موجودون بيننا وحوالينا.
اتسمت السنتان الأخيرتان بانفتاح على قطاع شركات التأمين المساهمة. المفاجئ هو الزيادة الكبيرة في عدد هذه الشركات. لا مرجعية لها شبيه بمؤسسة النقد بالنسبة للبنوك. من سيحاسبهم، من سيحمي المواطن منهم. اشتهر عنهم عندما كانوا وكالات في حجم بوتيكات بالتملص من مسؤولياتهم فهل سيعاودون ذلك الآن؟ الهدف من إنشاء شركات التأمين هو المساهمة في تمويل الاستثمار المحلي, كما تم في الدول الأخرى. يا ترى أين سيوظفون أموالهم ومكاسبهم.. هل سيستعملونها للداخل أم تهاجر إلى الخارج كالعادة؟ إنها شركات تأمين تعددت، ما زالت محل تساؤل عما سيكون دورها في الاستثمار المحلي. وإذا كان دورها سيكون كما كان لسابقتها من مكاتب التأمين وبوتيكاته.. فالله يعين؟
هذه ممارسات سلبية توجد في قطاع الاقتصاد الرأسمالي لا يستغرب وجودها, علينا أن نحاربها، ضررها لا يضر الدولة فقط وإنما يضر المواطن العادي وهو القاعدة الحقيقية للاقتصاد والأمن. لا شك أن وزارة التجارة و''تداول'' لم نلمس منهما من الأنظمة أو المتابعة ما يطمئننا على كبح جماح هذه الاتجاهات والممارسات الضارة. إننا نتمتع بوطن مستقر وحكومة مخلصة, وأمن واستقرار يحسدنا عليها من حولنا. وقوتنا المالية مكسب وذخر يجب حمايته.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي