(ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم)
يشعر المسلم بالأمن والطمأنينة بمجرد دخوله لتلك الديار المقدسة ويشعر المؤمنون بالأمان والسكينة والخشوع عندما تطأ أقدامهم تلك البقاع الطاهرة إن لهذه الأماكن حرمة فقد شرفها الله وصانها وعظم حرمتها ورفع مكانتها ولقد عرف الناس لهذه البقاع قدرها فألقى الله في قلوبهم تعظيم هذا البيت العتيق. لقد كان العرب في الجاهلية وهم أهل شرك وعبادة أوثان وأصنام يغير بعضهم على بعض ويسفك بعضهم دم بعض وتشتد بينهم المنازعات وتحتدم الخصومات.. وفي الوقت الذي ينعم فيه أهل مكة بالأمن والأمان في أجواء الحرم الآمن فهم في أمن عظيم والأعراب من حولهم في وضع مضطرب ولهذا فإن الله يمنّ عليهم بهذا الفضل العظيم (أولم يرو أنا جعلنا لهم حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم..).
ومن تشريف الله لهذا البلد الآمن أن جعله حرما آمنا لا يسفك فيها دم أحد ولا يظلم فيها أحد ولا يصاد صيده أو يقطع شجره بل لا تثار فيها أحقاد أو تنبعث خصومات ومشاجرات.
وقد كان أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - يعرفون لهذه الأرض المباركة والبقاع الطاهرة حرمتها ويقدرونها حق قدرها فكان بعضهم يتحرج من الإقامة فيها مخافة أن يقترف ذنبا على ثراها الطاهر، يقول عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه: «ما من بلد يؤخذ فيه العبد بالنية قبل العمل إلا مكة وتلا قوله تعالى: (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم..) ويقول عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما: لئن أذنب سبعين ذنبا في ركبة – مكان بين مكة والطائف – أحب إلى من أذنب ذنبا واحدا في مكة..».
إن السيئة في حرم الله أعظم من مثيلاتها في أي مكان آخر والذي يفكر مجرد تفكير في اقتراف سيئة في ذلك المكان يعاقب عليها لمجرد الهم بها والتفكير فيها فكيف بمن يرتكبها؟! ولهذا جاء الوعيد الشديد والتهديد البالغ لمن يلحد في بيت الله.. (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم) ولقد توسع العلماء في معنى الإلحاد والظلم فذهب بعضهم إلى أن الإلحاد في البيت هو أن يهم بأمر فظيع من المعاصي الكبار وقيل الظلم: الشرك وقيل: أن يعبد فيه غير الله، وقال مجاهد: أن يعمل فيه عملا سيئا.. ويدخل تحت هذا كل ميل عن الحق إلى الباطل كالنطق بالأقوال الباطلة والترويج للمذاهب الفاسدة والأفكار المنحرفة لأن هذا البيت الذي أقيم لرفع كلمة التوحيد وتحقيق الدين الخالص ينبغي أن يكون مهيئا على مدى العصور والأزمنة للطائفين والعاكفين والركع السجود وألا يشغلوا بما يفسد عليهم متعة العبادة ولذة المناجاة من أقوال أو أفعال تثير الفزع والخوف وتعكر صفو هذه العبادة الجليلة وتحيل أمن الناس وطمأنينتهم إلى قلق واضطراب.
إن من يقدم على مقارفة شيء من ذلك يكون قد ارتكب جرما كبيرا وذنبا عظيما في بقاع ينبغي أن يسود فيها الأمن، جعلها الله مثابة للناس وأمنا..
وهو بذلك يستحق عقاب الله وعذابه الأليم الذي توعد به من يقترف شيئا من ذلك لقد أراد أبرهة أن يعتدي على حرمة البيت بهدم الكعبة فرد الله كيده في نحره وأنزل عليه عذابا أليما.. وكان أبرهة عامل النجاشي ملك الحبشة على اليمن فبنى كنيسة كبيرة في صنعاء وكتب للنجاشي يقول: «إني قد ابتنيت لك أيها الملك كنيسة لم يبن مثلها لملك كان قبلك ولست بمنته حتى أصرف إليها حج العرب.. قاد أبرهة جيشا عظيما تتقدمه الفيلة حتى أتى مكة فأصاب منها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم وهو يومئذ كبير قريش وسيدها فجاءه عبد المطلب وكلمه في تلك الإبل فقال له أبرهة: أتكلمني في مائتي بعير أصبتها منك وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه؟! فقال عبد المطلب: إني أنا رب الإبل وإن للبيت ربا سيمنعه قال أبرهة: ما كان ليمتنع مني قال له: أنت وذاك فرد عليه إبله وانصرف عبد المطلب إلى قريش وأمرهم بالخروج من مكة إلى رؤوس الجبال خوفا عليهم من بطش جيش أبرهة.
ولما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة وهيأ فيلته ولكنهم كلما وجهوا الفيل إلى مكة برك على الأرض وإذا وجهوه إلى غيرها قام وهرول وهكذا إلى أن جاء عذاب الله فأرسل عليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول وهذا هو مصير كل من يحاول أن يلحق بالحرم الآمن والبيت العتيق أذى أو يمسه بسوء.
إن واجبنا نحن المسلمين ممن يؤمون هذا البيت الآمن وتلك الأماكن المقدسة أن نراعي حرمة الحرم وأن نعرف له قدره وأن يحذر الناس من الإلحاد فيه بأي شكل من أشكال الإلحاد. إن على الحجيج أن ينصرفوا إلى أداء عبادتهم ومناسكهم على الوجه المشروع وأن يتجهوا إلى ربهم بالدعاء والتحميد والتهليل في خضوع وخشوع وتذلل.
نسأل الله أن يتقبل من الجميع وأن يحفظ بيته من كل سوء أو مكروه وأن يديم أمنه على هذه البلاد المباركة.