على قارعة الكوارث
أعني الكوارث المالية .. الكوارث التي عانيناها خلال 2005-2009، ونعانيها حالياً، وسنعاني نتائجها مستقبلا، لم تكن قليلة العدد ولا سهلة المراس، بل كانت كاسحة محليا وإقليميا وعالميا. محليا كانت البداية مع ما يسمى شركات توظيف الأموال، إنهم أفراد يمارسون عملا من دون ترخيص، وهم نوع من المافيا، هذه الفئة ابتزت المليارات، تأخذ من هذا لتعطي ذاك. ضحيتهم الشرائح الشعبية التي قرارات استثماراتها تبنى على الشائعات والسمعة عن هذا الموظف أو ذاك، مظهره وممارسته، أغلبيتهم فقدوا مدخراتهم, بل بعضهم اقترض لينتهي به المطاف إلى نهاية أسوأ.
ثم كانت الكارثة المحلية والإقليمية الكبرى .. انهيار سوق الأسهم السعودية والخليجية، الانهيار الشهير، حين تعدى مؤشره 20 ألفا، ليسقط إلى الهاوية، وكانت الكارثة على الجميع. حتى صناع ولاعبو هذه السوق لم ينج كثير منهم .. أما القطيع ـ وهم الأغلبية - فحدث عن معاناتهم ولا حرج.
الشؤم لم يقف عند هذا الحد، بل أخذ منحى عالميا. فوجئ العالم بانهيار العديد والعتيد من مؤسسات wall street في نيويورك، موقع ومقر وبلاط.. ما كان يعتقد أنهم أساطين المال وممولو الأموال، ذوو الأسماء التاريخية الرنانة، مثل Lehman brothers- Merrill lynesh- AIG- وغيرهم من بنوك أفلس المئات منها وما زالت الأخبار تنقل إلينا تتابع هذه الإفلاسات.
هذا الانهيار وانعكاساته العالمية كانت مدوية. الغريب في الأمر أن سبب هذا الانهيار لم يكن خارج السيطرة، إنما كان سوءا في الأداء وعجزا في الإدارة، وضعفا في الإشراف الحكومي. ويعزى هذا الانهيار لإصرار المصرف المركزي الأمريكي على سياسة تخفيض الفائدة، لتحقيق استقرار الأسعار، بينما كانت هناك حاجة ماسة إلى تطعيم الاقتصاد بزيادة في الفائدة لإحداث الاستقرار المالي، فاختاروا الخيار الأول، وأهملوا الخيار الآخر، ما أدى إلى إقراض مفرط لمقترض غير قادر. الحصيلة كانت عدم الوفاء ومن ثم الانهيار.
اتضح أن هذه المؤسسات كانت نمورا على ورق. كنا نحن البسطاء نعتقد أن الغرب ومؤسساته المالية تتعامل مع المال بأعلى المعايير وأدقها، إلا أنهم قاموا بصناعة واختراع منتجات مالية لا أساس لها، وسندات لا قاعدة لها، تورط فيها شعبهم والعالم. إن ما حدث في 2007-2009 لا يمكن تسميته فقاعات, بل كوارث ومآس ستبقى آثارها لسنوات مقبلة.
ما يثير التساؤل والاستغراب أمران صاحبا هذه الكوارث. الأول هو أنه لا توجد جهة تلام، أو تساءل أو يُدّعى عليها. الأمر الآخر لا هم ولا نحن كشفنا عن الضحايا من السعوديين والخليجيين أو العرب عموما، أفرادا كانوا أو مؤسسات، فلا هم في الغرب يريدون فتح مجال لمطالباتنا، ونحن كعادتنا نخجل من أن نعلن الخسارة. أما فيما يخصهم – الغربيين - فلا يكلون عن مطالبتهم بحقوقهم، بل إن وزير تجارة بريطانيا بطوله وعرضه أتى إلى الخليج في زيارة مفاجئة فُهمت أنها لبحث حقوق مؤسساتهم المقرضة لبعض العائلات التجارية في الخليج، علما بأن سبب المديونية هو شراء أسهم في بنك بريطاني، كان الأحرى بهم دعمه.
وأخيرا فوجئنا بأن دبي تعاني أزمة مالية. وتختلف كل الاختلاف عما سبق، فهي أزمة مؤقتة تعود إلى إعادة هيكلة بعض القروض، في بلد قادر على القيام بالتزاماته، القروض نحو 80 مليار دولار، تخص فقط القطاع العقاري الذي يشكل 13 في المائة فقط من هيكل التنمية في دبي، أوجه التنمية الأخرى من سياحة وتجارة وصناعة كلها كانت وما زالت على ما يرام. الدعم الذي قامت به أبو ظبي أكد أن هذه القروض ستستوفى. المثير في هذه الأزمة أن هناك من يرغب في أن يجعل منها قضية، (ونعيق الغربان) بدأ في الفترة الأخيرة يتزايد على شاشات الفضائيات. يبدو أن اجتذاب دبي الاستثمارات الغربية والسائح والمستثمر والمقيم الغربي، أمر بدأ يزعج بعض الأوساط الغربية. ألا ينظرون إلى اليونان التي بلغت قروضها (يقال) 132 في المائة من دخلها القومي. وماذا عن آيسلاندا، دولة أفلست.
يبدو أن منطقتنا ومنذ عقود كانت مستهدفة كمنطقة صراع تتبعها كوارث مالية، بدءا من حرب فلسطين، ثم عندما قضوا على سويسرا الشرق الأوسط (لبنان)، ثم تبعها عديد من الحروب المدمرة لنصل إلى حروب الخليج، والحصيلة كانت (شفط) ما تراكم لدينا من ثروات .. على أو بسبب هذه الأزمات. ويبدو أننا كلما وفقنا في توفير الاحتياطيات حدث من الصراعات المكلفة ما يكفي لامتصاصه.
يبدو أنه قد يكون من المناسب, بل من المريح أن تكون مقترضا في عالمنا هذا وليس مدخرا.. دبي اقترضت لتنمية نموذجها الرائع، وهذه أكثر فائدة وجدوى من وضعها أموالاً في البنوك لتلتهمها ظروف أخرى. يبدو أن تنمية على الأرض خير من حساب في البنك. قد يكون ذلك يتنافى مع مفهوم الادخار في اليوم الأبيض لليوم الأسود، لكن في أيامنا هذه أشياء كثيرة تتغير، وشر البلية ما يضحك.
الحكومة الأمريكية حتى الدول الأوروبية واجهت هذه الكارثة بتشريعات وقوانين فاعلة وبناءة وجذرية, وهي منح ''الاحتياطي الفيدرالي'' صلاحيات أوسع لمراقبة شركات توظيف الأموال، وسيتم إنشاء وكالة لهذا الغرض من صلاحيتها تفكيك كل شركة مالية تهدد الاقتصاد. بعض المعاملات المالية ذات المخاطر ستكون تحت المراقبة المشددة ويطالبون حاليا بوكالة لحماية المستهلك (القطاع المالي) وتنظيم آخر رقابي على wall street، وهناك قوانين أخرى مختلفة ستشرع لهذا الغرض.
إنهم يتعلمون من الكوارث ودروسها وعبرها. نتمنى أننا في دول الخليج وما حبانا الله به من ثروة كبيرة، وموقع استراتيجي، ومزايا سياحية ودينية، أن نتعلم من هذه الكوارث لنتفادى القادم منها. الاطلاع على نتائج اجتماع مجلس التعاون الأخير وإن كان مريحا إلا أنه كان عاديا لم يأخذ في الاعتبارات هذه الكوارث والأزمات التي حدثت، بيئتنا الاقتصادية في حاجة ماسة إلى قوانين مالية ومصرفية تحمي مؤسساتنا المالية وتحمينا منها. متى يكون لدينا صندوق خليجي ومؤسسة نقد خليجي ونظام بنكي خليجي متداخل .. متى؟