الموازنة .. نسمع أرقاما ونأمل إنجازا
أرقام الميزانية الجديدة والتي فاقت موازنة العام الماضي بـ 14 في المائة، وحفلت باعتمادات مالية ضخمة لكل الوزارات والقطاعات الخدمية في الدولة، تبقى مجرد أرقام واعدة ومبشرة، ولكنها على أرض واقع التقييم الحقيقي والعملي لها يظل حجم التوقعات لدى المواطن منها منخفضا ولا يجارى كونها واحدة من أضخم الموازنات في تاريخ المملكة، فعلى الرغم من أنه تحدث عنها إيجابيا، وهي فعلا كذلك، إلا أن المواطن، صاحب المصلحة الأولى منها، لا يحكم عليها من خلال مفاهيم اقتصادية نظرية، بل من خلال ترجمة عملية وفعلية لهذه الأرقام تجعله يلمس تطويراً وتغيراً إيجابياً على مستوى الخدمات الأساسية كافة من علاج وتعليم وطرق وإنشاء وتطوير بنى تحتية في المدن والقرى وبقية الخدمات الأخرى، إلا أنه ومن تجارب الموازنات السابقة والتي جاءت وقتها مجزية وكافية دون أن يلمس إنجازات حقيقية تتوافق مع حجم ما رصد، انخفض تفاعل المواطن مع أرقام الموازنة الجديدة لأنه وببساطة لم يشهد لما سبقها من موازنات أثرا واضحا وملموسا، وهذا ما عبر عنه بما يعكس نبض المواطن وحس المسؤولية وأمانة الولاية، خادم الحرمين الشريفين - وفقه الله - بكلمات قليلة موجزة، ولكنها توزن بماء الذهب في المعاني والغايات والمصداقية، حين خاطب الوزراء في جلسة مجلس الوزراء الذي أقرت فيه الميزانية قائلا: المهم عليكم إخواني إتمامها بجد وإخلاص والسرعة، وعدم التهاون في كل شيء يعوقها، لأن هذه أسمعها أنا من الناس وأحسها بنفسي، بعض المشاريع إلى الآن ما بينت، ضائعة، لكني آمل منكم الذي يجد تقصيرا من أي أحد ومنهم وزير المالية أن يخبرني، لأنه لا يوجد تقصير أبدا أبدا، واللوم إذا جاء يجيء على الوزير فقط. بهذه الكلمات المفعمة بالصراحة والمسؤولية لمس خادم الحرمين الشريفين - أيده الله - هموم وشجون ما يشعر به المواطن، وعبر عنه بهذه القوة الصادقة للوزراء المكلفين بترجمة أرقام الميزانية لواقع وإنجازات ملموسة.
إذا قرأنا أرقام هذه الميزانية الجديدة وحجم الاعتمادات المالية التي رصدت لكل القطاعات بسخاء، فإن هذه القراءة تؤدي لفرضية مؤكدة بأنها يجب أن تحدث في النتيجة نقلة حقيقية وكبرى، وتنجز تغييرا أكبر في كافة المرافق والخدمات ذات الصلة بحياة المواطن والبلد، فهذه الأرقام المرصودة كفيلة بإنهاء ما نواجهه من نقص وضعف في كافة الخدمات، والتي لا تتوافق مع وضع بلد مثل بلدنا حباه الله بقيادة أمينة وخير وفير، وهذا كله مرهون بأمرين: الأول توافر المال الكافي، وقد وفر في هذه الموازنة وما قبلها بما يمكن أن ينجز الكثير، والآخر في القدرة الإدارية والتخطيط السليم لدى الوزارات المكلفة والمنوط بها استثمار هذه الاعتمادات الضخمة بما يحقق النقلة المطلوبة والمنتظرة، وهي قدرة باتت محل شك عطفا على أدائها خلال الأعوام السابقة والتي شهدت توافر اعتمادات بمئات المليارات، إلا أنه لم يتم استثمارها الاستثمار الأمثل، والشاهد عليها أننا ما زلنا نعاني نقصا وترديا في الخدمات، ولو أجرينا حسبة لما رصد خلال الأعوام الخمسة الماضية فقط من اعتمادات مالية، لكانت النتيجة المفترضة اليوم أن نكون في مصاف الدول الأكثر تطوراً وتقدما في العالم.
موازنة هذا العام لا يكفي أن نحتفي فقط بأرقامها، بل علينا أن نحدد نوعية ونسبة إنجاز منتظرة عطفا على هذا الكم الوافر من الاعتمادات المالية، فإذا كان الوزراء في السابق يشكون من قلتها، فها هي موازنة هذا العام تقدم ليس فقط المبالغ المطلوبة، ولكن توزيع الصرف وفق قيمة واحتياج كل قطاع وبوفرة، وهذا ليس له إلا معنى واحد وهو رصد المتوقع إنجازه خلال العام الجاري سواء كان إنجازا كليا أو البدء الفعلي بالعمل في المشاريع الحيوية والأساسية، فلا أعذار ولا تحجج، فالتعليم العام والعالي وتدريب القوى العاملة مثلا حصل على 137 مليارا لإنشاء 1200 مدرسة جديدة وللجامعات الجديدة، وهذا يعني أن نشهد مباني مدرسية متوافقة مع البيئة الدراسية الصحيحة، وتطويرا فعليا لقدرات المعلم ولأدوات العملية التعليمية العامة والعالية، وأن نشهد مخرجات قوى عاملة مدربة ومؤهلة، والخدمات الصحية والبرامج الاجتماعية رصد لها أكثر من 61 مليار ريال، وهذا يعني أن يجد المواطن خدمة علاجية ميسرة وعالية المستوى تعتقه من تكاليف العلاج الخاص الباهض الثمن، وأن تصبح المستشفيات الحكومية خيار المواطن الأول، حيث يجد العلاج والخدمة الفورية، ومشاريع مياه الشرب وخدمات الصرف الصحي بلغ ما رصد لها 46 مليار ريال، وننتظر أن ينتهي عصر الوايتات التي تشغل الطرق بحمل المياه للبيوت والاعتماد على تشغيل شبكة المياه مباشرة وتطوير مصادر مياه الشرب، ويبدأ فعليا بإنشاء شبكات الصرف الصحي بسرعة، وحظي قطاع الخدمات البلدية والنقل والاتصالات بـ 46 مليار ريال، وهو ما يدفعنا لتوقع أن نرى شوارع دون حفر وطرقا بمواصفات عالمية وبنى تحتية فاعلة وعملية.
هذه الأرقام بالمقاييس الاقتصادية كفيلة بإنجاز الكثير والكثير، فهذه المليارات تكفي لبناء مدن جديدة، فضلا عن أنها كافية لتطوير وتحديث مدن قائمة، السؤال الآن هو هل تكون هذه الموزانة بالنتيجة كسابقاتها نسمع أرقاما ولا نرى إنجازا ..؟
ما بين حرص الدولة على توافر الإمكانات المالية وقلة الإنتاجية والنتائج هنالك حلقة مفقودة، وهذه الحلقة تكمن في ضعف الأداء من ناحية، وعدم فاعلية نظام المتابعة والمحاسبة من ناحية أخرى، وهذا الضعف في الأداء أدى إلى شعور غير صحيح وهو أن الموازنة هي في النهاية مجرد أرقام، وضعف الأداء يمكن في عدم قدرة الكوادر في الوزارات على وضع رؤية مدروسة واستراتيجية تستطيع استثمار كل ما يوفر لها من اعتمادات مالية لإضافة منجز أساسي، ولهذا نجد جل الوزارات تعيد في نهاية العام فائضا ماليا لم تستطع استثماره لغياب هذه الرؤية.
هنا ولمعالجة هذه الفجوة أو الحلقة المفقودة ما بين توافر الإمكانات المالية وضعف وتهاون الأداء، لا بد من الاعتماد على نظام مراقبة ومتابعة ومحاسبة مؤسسي، فمن دون وجود مؤسسات ذات مهام رقابية مباشرة وحقيقية، وصلاحيات محاسبة وفق نظامية وآلية تفعل الهمم وتحدد المسؤوليات، فسوف نظل نعاني هذه الفجوة، وتتعرقل مشاريعنا بالأحادية والاجتهادات غير المؤسسة على رؤية وطنية شاملة.