هل انهار حلم الأنموذج؟

يشعر المتابع لردود أفعال الأسواق العالمية، والتغطية الإعلامية المكثفة لإعلان دبي مهلة لسداد مستحقات ديون كبرى الشركات الحكومية وكأن النموذج الاقتصادي للإمارة فشل تماما. ورغم أن المبلغ الذي طلبت شركة دبي وورلد فترة سماح لسداده ليس بالضخم، نحو 3.5 مليار دولار، فإن التداعيات العالمية ذكرت الناس بالأزمة المالية التي ضربت الاقتصاد العالمي إثر انهيار القطاع العقاري الأمريكي. ويعكس ما يجري أهمية دبي، ليس فقط لطموحها المثير وشططها فيما اتخذته عمادا لتطورها من عقار، سياحة، تجارة، واستثمار وإنما لكونها أوضح صورة للنظام المالي العالمي بحسناته وسيئاته. شركة دبي وورلد، المملوكة لحكومة دبي إحدى الإمارات السبع المكونة للإمارات، لديها ديون بالمليارات منذ مدة ولم تكن هناك مشكلة. ودبي ككل مولت قدرا كبيرا من مشاريعها بالائتمان فوصل دينها إلى نحو ناتجها المحلي الإجمالي. ومنذ تعمقت الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008 وشركات دبي الكبرى تعاني مشاكل جمة. وهناك من مشاكل الإفلاس والخسائر في اقتصادات أخرى في المنطقة أكبر بكثير من الأزمة الأخيرة في دبي ـ على سبيل المثال ضياع نحو 22 مليار دولار في السعودية مع مشاكل مجموعة الصانع والقصيبي وحدها.
ومولت دبي مشاريع كثيرة بالائتمان في بقية دول الخليج التي راكمت عائدات هائلة من صادرات الطاقة لا تفصح الحكومات عن تداعيات الركود العالمي عليها، وتنقذ كثيرا من شركاتها أو تغطي على خسائرها بالمليارات. لكن دبي مختلفة، لانكشافها أكثر على الأسواق العالمية وعدم توافر النفط لديها ومن ثم اعتمادها اقتصاديا على التجارة والخدمات. ويبدو السبب الرئيسي وراء انزعاج الأسواق وقلق قادة دول الغرب أن الشركة الحكومية لم تتلق دعما حكوميا (أو سياديا كما يسمى في الإعلام الاقتصادي الغربي). ولأن نموذج دبي يمثل أوضح صور النظام المالي العالمي، الذي مني بآفة تضخيم قيمة الأصول بشكل مبالغ فيه، فإن انفجار فقاعته سيكشف مثالبه أكثر بعدما بدا أن التدخلات الحكومية العالمية في الاقتصاد توشك أن تخرجه من الركود. وكان متوقعا، كما تلحظ من كتابات المحللين الغربيين، أن تسارع إمارة أبو ظبي ـ التي تملك الثروة الأكبر في الإمارات من عائدات النفط ـ إلى انقاذ دبي بتوفير الأموال لتدفع شركاتها فوائد ديونها. لكن الواضح أن أبو ظبي لن تتدخل كما تفعل حكومات خليجية أخرى ''تستر'' عيوب اقتصادها بالمليارات. كما أن دبي نفسها قد لا تكون راغبة في تمويل تشوه اقتصادي تريد التخلص منه. ولا حرج على دبي، طالما أنها تتعامل مع العالم المالي العالمي بطريقته، أن تتخلف عن سداد أقساط ديون، بل وتشهر إفلاس شركاتها الخاسرة غير القابلة لإعادة الهيكلة. ولم يكن حديث بعض المعلقين والمحللين عن إنعدام الشفافية في إعلان دبي إلا إشارة لرغبة هؤلاء في معرفة إن كانت أبو ظبي أو غيرها ستتقدم لإنقاذ الشركة أم لا. وليس المقصود بالإفصاح إعلان الأرقام، فأرقام دبي معلنة ومعروفة بأفضل من غيرها في الخليج والمنطقة كلها. والقلق العالمي هو على استمرار الحصول على فائدة استثمارات لو كانت في مجال ومكان آخر لكانت قد تبخرت بالفعل ـ وليس أفضل من ثروات عائدات النفط للحفاظ على أرباحها من فوائد الديون. وقد تبخرت أحلام كثيرين في دبي فعلا في الآونة الأخيرة خاصة المغامرين في القطاع العقاري. فكثير من الغربيين كانوا يشترون العقارات الفخمة في دبي على أمل بيعها بعد قليل بضعف الثمن وكسب الملايين في غمضة عين. وأسهم كل ذلك في تضخيم فقاعة قيمة الأصول، وتضخمت معها الأحلام، ولما انهارت فر هؤلاء من دبي يصرخون بأن ''البلد انهار''. والحقيقة هي بين هذا وذاك، فلا شك أن اقتصاد الإمارة استفاد من الفقاعة ـ كما استفاد منها مغتربون كثيرون من عمالة ومستثمرين ـ ويعاني حاليا من انفجارها. وأهم أشكال المعاناة هي أن دبي بنت في العقدين الأخيرين سمعة جعلت التأمين على ديونها وأعمالها أقل تكلفة من أي مكان أخر في العالم. ولا شك أن الأزمات الأخيرة سترفع تلك التكلفة وتصعب على الإمارة توفير التمويل من الأسواق لمشروعات جديدة. نموذج الشركة استطاعت دبي تحقيق قفزتها الاقتصادية في المنطقة عبر طريقة إدارة للإمارة وكأنها شركة لها رئيس ومجلس إدارة. وأفلح ذلك في البداية في تلافي البيروقراطية وتسهيل خطط تنمية طموحة جدا بتمويل ائتماني واستثمارات متنوعة. وتمكن حكام دبي من الحفاظ على تلك الطريقة دون مشاكل كبيرة ضمن الاتحاد الذي يشكل الدولة أو مع الجيران من دول الخليج الأخرى. وأصبح نموذج دبي ملهما لكثير من دول المنطقة التي صارت تقلدها في العقار والخدمات المالية وحتى محاولة تطوير السياحة. ولم يقتصر الانبهار بالنموذج على دول خليجية مثل قطر والكويت وإنما امتد إلى دول راسخة لديها نمط تنمية ممتد مثل مصر والمغرب وغيرها. والآن يجادل كثيرون بأن ذلك النموذج فشل، دون الاعتراف بأن ذلك يعني فشل النظام المالي العالمي تماما. ومع حرص العالم على نظامه المالي واستمرار جهوده لإنقاذه وتعافيه، لا يتصور أن أكثر بؤره وضوحا ستنهار حتى لو لم يتوافر ''الدعم السيادي''.

المصدر: بي. بي. سي

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي