العقد الأول من هذا القرن؟ منعطف تاريخي مهم
القوة العالمية الوحيدة (بريطانيا) كانت في حالة انحدار سريع نسبي. وقبل ذلك بفترة قصيرة، حققت نصراً باهظ التكاليف في حرب استعمارية مكلفة. قوى عظمى جديدة كانت في سبيلها إلى الظهور. كان هناك سباق على التسلح، وكذلك تنافسٌ على الأسواق والموارد في المناطق غير المتطورة في العالم. مع ذلك كان الناس لا يزالون يؤمنون باستمرارية التجارة الحرة والحركة الحرة لرأس المال، والتي كانت من نتيجتها انتشار الرفاهية وتعميق حالة السلام، كما اعتقد الكثيرون.
هذه كانت صورة العالم في أعين الكثيرين في نهاية العقد الأول من القرن العشرين. مع ذلك كانت هناك كوارث بانتظار البشرية: حرب عالمية، ثورة شيوعية، الكساد العظيم، والفاشية، ثم حرب عالمية أخرى. النظام العالمي، الذي بُني على تنافس القوى العظمى والإمبريالية والأسواق الحرة، أثبت أنه غير قادر على تأمين المنافع العامة في مجالي السلم والرفاهية. احتاج الأمر إلى وقوع كارثة، ثم الحرب الباردة، وحلول الولايات المتحدة محل بريطانيا لتكون القوة المهيمنة التي تعمل على تثبيت الاستقرار. وهذا بعد ذلك كان من العوامل التي ساعدت على تراجع الاستعمار، وتحقيق توسع اقتصادي لم يسبق له مثيل، وانهيار الشيوعية، وحدوث عصر آخر جديد من التكامل العالمي المدفوع بحركة السوق.
قيل إن مارك توين قال: التاريخ لا يعيد نفسه، لكنه يكرر مقاطع معينة. العقد الأول من القرن الواحد والعشرين يجعلنا نشعر الآن بإحساس «نهاية النظام»، وهو الشعور الذي كان سائداً قبل قرن. في ذلك الحين، كانت الولايات المتحدة وألمانيا وروسيا واليابان في سبيلها إلى الظهور. أما الآن فلدينا الصين والهند في الوضع نفسه. في ذلك الحين كانت هناك حرب البوير، أما الآن فلدينا حرب في العراق وأخرى في أفغانستان. في ذلك الحين كان هناك سباق على التسلح بين ألمانيا وبريطانيا، والآن لدينا الحشد العسكري في الصين. في ذلك الحين أضرت الحمائية الأمريكية بالتجارة العالمية، والآن فإن النزاعات بين الولايات المتحدة والصين تضر بقدرتنا على التصدي للتغيرات المناخية. في ذلك الحين كانت الولايات المتحدة انعزالية، والآن نرى الصين والقوى الأخرى الصاعدة تطالب بسيادة مفتوحة دون قيود.
العقد الأول من هذا القرن اتسم بتغيرات تاريخية. أولاً، نحن نشهد على الأقل بداية النهاية، ليس فقط للحظة وهمية من «السيادة الأحادية» للولايات المتحدة، وإنما كذلك بداية النهاية للسيادة الأوروبية بصورة عامة، والقوة الأنجلو أمريكية بصورة خاصة. في القرن التاسع عشر كانت بريطانيا هي القوة العظمى الوحيدة ذات البعد العالمي. واحتلت الولايات المتحدة الدور نفسه في النصف الثاني من القرن العشرين. كان الانتقال بين هذين العصرين عبارة عن كارثة. وعلى الأرجح لدينا الآن مرحلة انتقالية أصعب حتى من ذي قبل بشأن دور القوى العظمى.
ثانياً، عانى الغرب بصورة عامة، والولايات المتحدة بصورة خاصة، من خسارة هائلة في النفوذ، جراء الإصرار (من خلال حق لم يثبت عليه دليل) على التدخل أتلف الثقة في الولايات المتحدة. والفوضى التي أعقبت حرب العراق وحرب أفغانستان، والأزمة المالية أتلفت سمعة الغرب من حيث الكفاءة (على نحو يفوق كثيراً تلف السمعة بسبب الحربين). كان يغلب على بقية العالم الاعتقاد بأن الغرب، بصرف النظر عن أخطائه، كان يعلم ما يفعل، خصوصاً في الأمور المتعلقة بإدارة اقتصاد السوق. لكن المعلم سقط في الامتحان.
ثالثاً، العولمة كذلك وقعت في عدد من الصعوبات. بعد 30 سنة من النمو القوي في ديون وقروض القطاع الخاص لأغراض الاستثمار، وفي الميزانيات العمومية في القطاع المالي، وفي الربحية الاسمية للقطاع المالي في الولايات المتحدة والبلدان الأخرى ذات الدخل العالي، كانت النتيجة أن انتهى كل ذلك بكارثة. تبين أن ظهور الاختلالات الهائلة في الحساب الجاري العالمي أضر بالاستقرار إلى حد كبير. كما أن الخلافات حول أسعار صرف العملات تهدد حتى إمكانية استمرار التجارة الحرة.
رابعاً، تأمين المصالح العامة العالمية الأساسية، يتطلب الآن تعاوناً بين القوى القائمة حالياً والقوى الناشئة والتي في سبيلها إلى الظهور. تبين ذلك في انعدام القدرة على إكمال جولة الدوحة من المفاوضات التجارية المتعددة الأطراف، وفي النفوذ المتعاظم لمجموعة العشرين، والانحدار الموازي لمجموعة البلدان السبعة ذات الدخل العالي أثناء الأزمة المالية، وفي أهمية دور الصين، التي تعتبر أكبر بلد في العالم منتج للغازات التي تؤدي إلى التغيرات المناخية الضارة، وفي المفاوضات حول التغيرات المناخية في كوبنهاجن.
مع ذلك فإن العالم، عن وجه حق تماماً، يطالب كذلك بتأمين قدر من المصالح العامة يفوق كثيراً ما كانت عليه الحال قبل قرن من الزمن. في ذلك الحين كان كل ما يتوقعه الناس هو قدر ضئيل من السلم، والاستقرار النقدي، والأسواق الحرة. أما الآن فإن العالم يطالب ليس فقط بأن يحافظ القادة على السلام والازدهار، وإنما كذلك بتعزيز التطور والاستدامة البيئية. كل ذلك مطلوب تحقيقه من خلال التعاون بين نحو 200 دولة ذات فروق هائلة في الطاقات والقدرات. من جانب آخر، هناك مجموعة كبيرة من اللاعبين من غير الدول، بعضها حميد وكثير منها خبيث، تفرض ضغوطاً متناقضة. أحياناً يستطيع هؤلاء اللاعبون تدمير بلدان بأكملها.
النبأ السار هو أن العالم لم يرتكب أخطاء كبيرة، في مثل حجم الأخطاء التي ارتُكِبت في أعقاب العقد الأول من القرن الماضي. بعض الفضل في ذلك يعود إلى الأسلحة النووية، حيث تم تجنب النزاعات المباشرة بين القوى العظمى، وحيث تمكن الاقتصاد العالمي الليبرالي من النجاة، حتى الآن. كذلك طُبِّقت العبر المستفادة من الثلاثينيات على الأزمة المالية للعقد الأول من القرن الحالي، مع تحقيق نجاح على المدى القصير على الأقل. وتظل المفاوضات حول التغيرات المناخية مفتوحة، وكثير من البلدان النامية، رغم أن عددها أبعد ما يكون عن الإجمالي، حققت تقدماً اقتصادياً. وفي حين أن التحرك باتجاه الديمقراطية الذي بدأ في أوائل التسعينيات يمر في حركة تباطؤ الآن، إلا أن عدد الأنظمة الشاملة الخبيثة تماماً أصبح صغيراً الآن، على الأقل إذا نظرنا إليه بمنظار أسوأ معايير القرن العشرين.
إذن أين ينبغي لنا أن نذهب في العقد المقبل؟ رغم جميع الصعوبات، فإن الولايات المتحدة ليست هي بريطانيا التي كانت في عام 1910. إذ يظل الاقتصاد الأمريكي أكثر الاقتصادات في العالم من حيث الإنتاجية والابتكار، كما أن القدرة العسكرية الأمريكية تظل دون منافس. العالم الغربي ككل ما يزال يتمتع بالقوة، حيث أنه يعطي نحو 40 في المائة من الناتج العالمي، بمعادل القوة الشرائية. لكن البلدان والقوى الأخرى تمر الآن في طور الصعود، في حين أن التحديات في المرحلة المقبلة أكثر تعقيداً وعالمية مما سبق لها أن تكون.
«يجب علينا جميعاً أن نكون صفاً واحداً، وإلا فإن من المؤكد أنه سيتم شنق كل واحد منا على انفراد.» جميع البلدان، وعلى الأخص القوى العظمى الحالية والصاعدة، لا بد أن تدرك هذه الحقيقة، التي جاءت على لسان بنجامين فرانكلين عند إعلان الاستقلال الأمريكي. من النادر أن تهيمن على التاريخ الأرواحُ الحميدةُ التي تتسم بالتعاون وبُعد النظر وضبط النفس. ولكن على الأقل أستطيع أن أنسب الفضل إلى باراك أوباما، بسبب محاولته إعطاء النوع المناسب من القيادة. لكن هل سيُنتِج العالم عدداً كافياً من الأتباع، داخل الولايات المتحدة وخارجها؟ للأسف، لا أظن ذلك.