من يَحِل مَحِل الدولار؟! (2 من 2)
نظراً لأهمية الدور الذي تقوم به العملة الدولية، فقد وضع صندوق النقد الدولي شروطاً لأية دولة لها الرغبة في أن تكون عملتها قابلة للتحويل، ومن أبرزها القدرة الإنتاجية ووفرة السلع للتصدير، امتلاك أرصدة ذهبية كجزء من الاحتياطيات النقدية تكون كافية لمعالجة التقلبات الاقتصادية الدولية، مع وجود سعر صرف واقعي يُبرز حجم وواقع الأرصدة النقدية. بيد أن الاقتصاديين يُعطون أهمية قُصوى لحجم ودور التجارة الخارجية، إضافةً إلى الثبات النسبي لقيمة العملة. تجدر الإشارة هنا، إلى أن أي تذبذب للدولار سيؤثر وبشكل مباشر في أسعار السلع العالمية وكذلك في العملات الأخرى المرتبطة به، وهذا التذبذب لسعر صرف الدولار مرتبط بشكل وثيق بالاقتصاد الأمريكي حيث العجوزات المزمنة والهائلة، الضعف الواضح في الإنتاج الأمريكي على المستوى الكلي، الاستهلاك الكثيف للمواطنين الأمريكيين ما جعل الولايات المتحدة تستورد أكثر مما تنتج، عدم حماس الإدارة الأمريكية لزيادة حصيلتها من الضرائب، ومن ثم الدافع إلى التمول الخارجي وما تلاه من أزمة مالية حادة ترنح لها الاقتصاد الأمريكي ووضعته على المحك قبل ان يُعاود سُلوكه الصاعد من جديد.
ونظراً لتعاظم الدور الاقتصادي للصين اليوم، والتي تعتبر سادس اقتصاد عالمي، فقد حققت فائضا من 32 مليار دولار عام 2004 إلى مايقارب 102 مليار دولار عام 2009، وبالرغم من تحسن تجارتها مع إفريقيا ودول أمريكا الجنوبية، إلا أن السوق الأمريكي هو الهدف الرئيس لها ومن ثم الأوروبي، ولذلك فإن الفائض الصيني بحاجة ماسة إلى الأسواق الأمريكية وذلك لاستثمارها في أصول وسندات الخزانة الأمريكية.
بطبيعة الحال هذا الوضع غير مقلق للاقتصاد الأمريكي البتة كون الصين ستزيد من طلبها الاستهلاكي نتيجة لتحسن دخول مواطنيها. من ناحية أخرى، طلبت الدول ذات النفوذ السياسي والاقتصادي من الصين إعادة تقييم سعر صرف اليوان أمام الدولار، لكن الصين رفضت وبشدة أي تعديل على سعر صرف عملتها التي ارتبطت منذ زمن طويل بالدولار. المبررات الصينية لا تخفى على أي مراقب للأوضاع الداخلية الصينية كون رفع سعر صرف اليوان سيلغي جزءا كبيرا من ميزة الصين التنافسية فيما يتعلق بعلاقاتها التجارية مع العالم الخارجي ما ينعكس سلباً على أوضاع الصين المالية وقدراتها التنافسية. على الجانب الآخر، نلحظ المتاعب التي يعانيها الاقتصاد الياباني الذي يُعتبر ثاني اقتصاد بعد الولايات المتحدة حيث يُشكل ناتجها الإجمالي نحو 66 في المائه من الناتج الآسيوي ونحو 14 في المائه من الاقتصاد العالمي، جراء ارتفاع سعر صرف الين على صادراتها ما يُفقد بضائعها ميزتها التنافسية خاصة فيما يتعلق بتكاليف الإنتاج.
أما دول القارة العجوز فليست بأحسن حال من مثيلاتها، حيث الاتحاد الأوروبي، والذي يُعد الشريك التجاري الأكبر في العالم حيث تُعادل صادراته 20 في المائه من الصادرات العالمية لعام 1999، ما جعلها ترقب دوما تقلبات أسعار الصرف رغبةً في المحافظة على وضعها التنافسي. في ظل الأوضاع المتقلبة لأسواق سعر الصرف هل كل البلدان عندها الرغبة والاستعداد لتكون عملتها دولية لتسوية المعاملات التجارية والمالية العالمية؟ بالتأكيد لا.. فالسلبيات المتوقعة من صيرورة العملة دولية تحتاج إلى وقفات مهمة، كون الشروط المطلوبة لذلك لاتستطيع أية دولة الوفاء بها اليوم مهما كان حجم إقتصادها ومواردها. الدلائل والشواهد السياسية والإقتصادية اليوم لا تُفرز لنا عملة بمواصفات الدولار، فالاتحاد السوفياتي سابقاً (روسيا حاليا) تمتلك قوة عسكرية لايدعمها اقتصاد قوي يسمح لها بلعب دور محوري على الساحة الدولية، أما اليابان فتمتلك من مفاتيح القوة الاقتصادية الكثير ما جعل هيمنتها على الساحة الدولية شبه معدومة، والمثال ينسحب على القارة العجوز. أما الولايات المتحدة فتمتلكُها جميعاً، قوة عسكرية واقتصادية ضاربة، ويكفيها إنتاجها لنحو 25 في المائه من الناتج العالمي، إضافة إلى أنها أكبر سوق استهلاكي في العالم، فالجميع يخطب ودها ويراعي مشاعرها. ونظراً لأهمية الدور العسكري في حماية المصالح الأمريكية، قلما تجد بقعة في العالم لا يوجد فيها أسطول بحري أو قواعد عسكرية أو حتى وجود عسكري مباشر، وهذه مدعاة لأن تجعل من يفكر بغير الدولار تحت التهديد المباشر وغير المباشر. أما في ظل الأوضاع الراهنة، بالرغم من عدم اتفاق الدول على عملة دولية محددة لتسوية المعاملات الدولية إلا أن الدولار فرض نفسه على الساحة الدولية من خلال قوة الولايات المتحدة الاقتصادية المدعومة بالقوة العسكرية الهائلة التي هدفها تسخير المصالح الاقتصادية الدولية لخدمة مصالحها، وهذه الحقيقة يجب ألا تغيب عن الأذهان. غير أنه يمكن القول، بالرغم مما يعانيه الاقتصاد العالمي من المشاكل الأمريكية الداخلية التي يتم تصديرها عن طريق الدولار، فإن مفاتيح العالم الاقتصادية اليوم بيد القوة العُظمى الوحيدة ابتداءً من تكنولوجيا النفط، مرورا بتكنولوجيا الحاسوب، وانتهاءً بالتقنية والقوة العسكرية المتفوقة ما جعلها بنك وشرطي العالم. لا غرو، فبقاؤها على الساحة الاقتصادية الدولية سيبقى مابقيت قوتها العسكرية ولا غير، وتاريخ البرتغال وبريطانيا العُظمى ليس منا ببعيد.