صفقة كرافت - كادبري ومستقبل الاقتصاد العالمي

يبدو أن الأزمة المالية العالمية الحالية ستغير التاريخ الاقتصادي والتجاري على وجهة المعمورة لأسباب تتعلق بموازين القوى العالمية على المستويين السياسي والاقتصادي وظهور القوى الاقتصادية الجديدة لتأخذ مقاعد متقدمة في صنع مستقبل الاقتصاد العالمي من خلال قمة العشرين، وأعتقد أن التغيير يأخذ بعين الاعتبار نسبة التركز العالية في الصناعات الناتجة عن الاستحواذات أو نسميها فرص الأزمة المالية. فبعد أن شهدنا خلال العامين الماضيين كثيراً من الاستحواذات التي نفذها عديد من الشركات لشركات أخرى أعلنت إفلاسها أو أوشكت على الإفلاس بسبب الملاءة المالية أو لتراكم ديونها وغيرها من الأسباب التي أنتجها الانكماش الاقتصادي الذي شهده العالم منذ الربع الثالث من عام 2008 ويستمر إلى اليوم، ولا أحد يعلم إلى متى سيستمر.
ولعلي هنا أركز على آخر تطورات عالم الأعمال العالمي الذي انتهى قبل أيام عندما فازت شركة كرافت بالسيطرة على شركة كادبري مع موافقة حملة نحو 72 في المائة من أسهم شركة الشوكولاتة البريطانية على عرض استحواذ بقيمة 11.7 مليار جنيه استرليني (18.6 مليار دولار) لتصبح «كرافت» أكبر شركة لصناعة الحلويات في العالم وهو ما سنأتي عليه في ختام هذا الطرح، ولكن يجدر الاهتمام بما يحمله الاقتصاد البريطاني من أحداث حيث يأتي هذا الاستحواذ امتداداً لما شهده الاقتصاد البريطاني من تطورات الاستثمار الأجنبي المباشر منذ بداية سياسة السوق المفتوحة العالمية أوائل التسعينيات الميلادية وتحديدا في عصر رئيسة الوزراء الحديدية مارغريت تاتشر التي فتحت الباب أمام الاستثمار الأجنبي بشكل غير مسبوق وكذلك بشكل كبير مقارنة بالاقتصاديات المتقدمة، وهذا الاستحواذ خلق كثيراً من النقاش في الأوساط الاقتصادية والشعبية البريطانية حول الانحسار لما يسمى بريطانيا العظمى تاريخيا وسياسيا واقتصاديا، ونفس الحديث اليوم تكرر كثيراً في السابق عند حدوث أي استحواذ أجنبي على علامات تجارية بريطانية الأصل، ويذكرني بما حدث لشركة أم جي روفر التي كانت لسنين طويلة مفخرة للصناعة البريطانية وكانت إلى جانب جاكوار أحد الروافد المهمة في خريطة صناعة السيارات العالمية. فإن قصة إفلاس روفر وما صاحبها من معلقات نشرتها الصحف البريطانية خاصة والعالمية عامة عن هذا الانهيار الذي ألقى بظلاله على عديد من أوجه الحياة السياسية والاقتصادية البريطانية وجعل من قضية عمال مصنع لونجبريدج في بيرمنجهام أحد أولويات النقاش، ولكن قصة إفلاس «روفر» ليست وليدة اليوم فالمتابع لصناعة السيارات بصفه عامة والبريطانية بصفه خاصة يدرك أن الإفلاس بدأ منذ عام 1994 عندما قامت شركة بي إم دبليو بالاستحواذ الكامل على شركة روفر المتعثرة مقابل مبلغ (1.7) مليار و700 مليون جنيه استرليني إلى وصول ملكية روفر اليوم إلى يد تاتا الهندية.
وخلال السنوات العشر الماضية تحديداً شهدت بريطانيا ظاهرة الاستحواذ الأجنبي لدرجة تكاد تطول جميع القطاعات الاقتصادية، واليوم تأتي «كرافت» الأمريكية لتكمل قائمة طويلة من الاستحواذ الأجنبي على علامات وأصول بريطانية من خلال الاستحواذ على عملاق صناعة الشكولاتة كادبري بعد أن كانت بريطانية لأكثر من 200 عام، والحديث عن صفقة كرافت-كادبري يفتح المجال مرة أخرى للتساؤل عن أمثلة كثيرة تشهدها قطاعات الاقتصاد البريطاني، فاليوم أغلب البنوك البريطانية لديها ملكيات أجنبية وإدارة المطارات أجنبية والأندية الرياضية الشهيرة والماركات التجارية، وهذا الانفتاح الاقتصادي لبلد عرف عنه التفاخر بتاريخه ومقدراته وسباقه الاقتصادي يجعل الحديث البريطاني - البريطاني حديثا ساخنا.
والقراءة لهذا الاستحواذ تتعدى من وجهة نظري ما يحمله من مؤشرات اقتصادية واجتماعية على مستوى بريطانيا، ليعطينا مؤشراً على مستقبل الاقتصاد العالمي من ناحية نسبة التركز في الصناعات، حيث إن الاستحواذات التي شهدها ويشهدها العالم خلال السنوات القليلة الماضية تشير إلى تكون مراكز قوى قوية تسيطر على أغلب قطاعات الاقتصاد وهو ما جعل «كرافت» اليوم - كمثال - أكبر شركة حلويات في العالم، هو ما قد ينتج عنه احتكار قلة مستقبلي قد يؤثر بشكل كبير في معطيات المنافسة الكاملة في الأسواق العالمية ويقودنا إلى حكم الإقطاعيات التجارية. ولنا حول هذا الموضوع وقفة مفصلة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي