الإثارة في عملية اغتيال المبحوح
أثارت الإمارات العربية المتحدة الإعجاب، وأدهشت بل أحرجت عصابة جهاز المخابرات الصهيونية «الموساد»، ورئيس جهاز شرطة دبي الفريق ضاحي خلفان التميمي يكشف المتورطين في اغتيال أحد قادة المقاومة الميدانيين الشهيد محمود المبحوح - رحمه الله - بالصور والأدلة والقرائن المثبتة، والتي جرت على أرض الإمارات.
الإثارة فيما حدث ليست في سقوط شهيد فلسطيني آخر على يد عصابة «الموساد»، فالمبحوح - رحمه الله - ومن قبله من الشهداء ومن سوف يستشهد بعدهم هم مشروع شهادة، وإلا لما اختاروا الطريق الصعب والخطر وهو المقاومة، كما أنها ليست في قدرة «الموساد» على الوصول لأهدافه بالاغتيال لكونه متمرسا على الجريمة من ناحية، ويدعمه غطاء ودعم خارجي واسع كما كشفته عملية دبي من ناحية أخرى، بل الإثارة الحقيقية هي في نتائج العملية وما تكشف عنها والتي تبرز في عدة نقاط: الأولى، القدرة العالية والمهنية الرصينة التي ظهرت عليها شرطة دبي ودولة الإمارات العربية المتحدة، فالكشف عن شبكة الاغتيال جاء سريعاً ومبنياً على سلسلة مترابطة من الأدلة من شرائط مصورة لتحرك أعضاء الشبكة، ونشر صورهم وصور جوازات السفر المستخدمة وجنسياتها، وهو ما يعكس درجة عالية من الضبط والمتابعة الأمنية الاحترافية والدقيقة، وأيضا في المهنية العالية حين جرى الكشف عن خيوط الجريمة بعيدا عن الاستعراض والدعاية الإعلامية في تسلسل منطقي ورصين وهادئ، ففي البداية لمح إلى أن هناك شكوكا في أن الشبكة التي قامت بعملية الاغتيال قد تكون تابعة لـ «الموساد» الصهيوني، ثم رفع الشك إلى درجّة الاحتمال الأكبر، وفي النهاية وجه الاتهام مباشرة لكيان العدو مدعما بالأدلة والبراهين.
الملاحظة البارزة في هذا كله، والتي تحسب للمهنية الرصينة والعالية المستوى، أن السلطة السياسية في الإمارات لم تتدخل في الأمر، بل تركت الأمر كله لجهازها الأمني بغرض حصره في كونه قضية جنائية أمنية وليست سياسية، خصوصا أن هناك أطرافا أوروبية لها صلة بالجريمة من خلال استخدام جوازات سفر أوروبية يصعب تزويرها إلا على يد جهات ذات إمكانات عالية كـ «الموساد» مثلا.
النقطة الثانية، الارتباك الشديد والحرج البالغ الذي وجدت دول أوروبية مرموقة نفسها فيه، بريطانيا وفرنسا تحديدا، بعد انكشاف أن عملاء النخبة من «الموساد» الذين نفذوا الجريمة كانوا يحملون جوازات سفر بريطانية وفرنسية إلى جانب أوروبية متعددة، والارتباك تسبب فيه كشف مدى التعاون الاستخباري بين «الموساد» والأجهزة الأمنية الأوروبية، وإلى حد إصدار جوازات سفر لإسرائيليين يعملون لدى «الموساد» للتغطية على تحركاتهم والتمويه على شخصياتهم، ومعروف بأن تزويرها ليس سهلا ولا ممكنا، ولهذا فالاحتجاج كان على استخدامها في عملية الاغتيال وليس الاتهام بتزويرها، أما الحرج فقد كان بسبب إظهار تلك الحكومات الأوروبية في موقع التواطؤ مع كيان العدو وجهاز مخابراته، وأنها خاضعة لنفوذ صهيوني شديد التسلط عليها.
النقطة الثالثة، تكشف مدى المخادعة التي يمارسها كيان العدو الصهيوني حتى مع أقرب حلفائه، حين أقام تعاونه الأمني والاستخباري، إن افترضنا حسن النية، مع الأجهزة الاستخبارية الأوروبية على أساس محاربة «الإرهاب»، وإذ به يستخدمه لتنفيذ عمليات قذرة، واستعداده لابتزازهم إن تطلب الأمر كما حدث حين تحركت الحكومة البريطانية باستدعاء السفير الصهيوني في لندن للاستفسار منه، وتناول الصحافة البريطانية واقعة الاغتيال بما اعتبر تحريضا على الكيان الصهيوني، بقيام مسؤولين صهاينة بتسريب معلومة عن وجود علم مسبق لدى جهاز المخابرات البريطانية «إم أي 6» من جهاز المخابرات الصهيوني بعزم الأخير تنفيذ عمليات اغتيال سوف تستخدم فيها جوازات سفر بريطانية.
النقطة الأخيرة أن السحر انقلب على الساحر، فبدلا من تباهي وتفاخر «الموساد» بقدراته الخارقة، وجعل عملية الاغتيال نموذجا نوعيا للعمل الاستخباري، تحول الأمر لاتهام «الموساد» بارتكاب جريمة قتل وتزوير في أوراق رسمية واستغلال تحالفات وفشل ذريع، وهو ما جعل منه ومن رئيسه مادة خصبة للاستهزاء والسخرية اللاذعة حتى في الصحافة الصهيونية.
على خلفية ذلك كله، وعلى وقع تصبب عرق الحرج والخجل الأوروبي من تصوير الأوروبيين بشخصية»الزوج المغفل»، كيف سيكون حال الأوروبيين ومعهم كيان العدو الصهيوني لو أن الدول العربية، وخاصة دول مجلس التعاون الخليجي، أعلنت قرارها بتشديد الرقابة على حاملي جوازات السفر الأوروبية حماية لأمنها من «الموساد» كما يفعلون هم لحماية أمنهم من «القاعدة» ..؟ فهذه الجريمة كشفت أن «الموساد» وهو الذراع القذر لكيان العدو، يهدد فعلا الأمن القومي العربي، بدلا من موقف المتفرج غير المبالي بخطورة ما حدث وكأنه جرى في جزر واق واق، لا في عمق عالم عربي بات تهديد أمنه واقعا..!!