مساعداتنا السعودية بين مؤيد ومعارض
مساعدات السعودية الحكومية إلى الدول الأخرى تثير جدلاً كبيراً بين مؤيديها والمعارضين، ولا يثير المعارضون شيئا أكثر من المقارنة بين ما تقدمه الحكومة من مساعدات إلى الدول الأخرى ببعض الأوضاع الداخلية، وغالبا ما تتركز هذه المقارنات على الخدمات الأساسية التي تحوم حول الفقر والتعليم والإسكان والخدمات الصحية.
ما دعاني إلى طرق الموضوع تقرير اقتصادي عربي صدر حديثا عن الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي نوه بالمساعدات الإنمائية والمنح التي تقدمها حكومة السعودية للمساعدات الإنمائية في دعم الدول الأخرى، مشيرا إلى أن قيمة المنح العربية خلال عام 2008 بلغت نحو سبعة مليارات دولار, وأن المملكة تبوأت صدارة الدول المانحة عربيا بنسبة 81.1 في المائة بقيمة إجمالية بلغت 5.7 مليار دولار، وأظن أن التقرير لو شمل عام 2009 لكانت المساعدات أكبر لمصلحة السعودية من حيث القيمة والوزن النسبي.
المعارضون للمساعدات الحكومية للدول الأخرى لهم منطقهم الذي يقوم على الأولويات، والقصور في بعض الخدمات.
لكن في المقابل .. تخيل أنك تسير في شوارع الهند ومررت بحالة مأساوية لأسرة غير مسلمة تعيش في الشارع بين الأوساخ والقاذورات وترى في أعينهم نظرة الاستعطاف لحالتهم يترقبون يدك أين تذهب ويتساءلون هل سيأتيهم منها نصيب؟ أو تخيل أنك في مكان ما في إفريقيا وتخرج من المطعم الذي تتعشى فيه وإذ بعشرات الجوعى بل الهلكى ينظرون إليك وينتظرون منك لقمة أو باقي لقمة ليس لتشبعهم لكن لتسد رمقاً من جوعهم! أو تخيل أنك في مكان ما في العالم ويوقفك طفل فقير عريان يتوقع منك صدقة تعينه على ستر جسده النحيل، بل تخيل أنك في لندن أو واشنطن ويطلب منك جارك المساعدة في إسعافه ونقله إلى المستشفى أو حتى سداد قيمة علاجه.
كلي ثقة بأن كثيرا منا قد تعرض لواحد أو أكثر من المواقف السابقة، والذين تعرضوا لأحد هذه المواقف كانت ردود فعلهم في الغالب إيجابية بمد يد العون والمساندة للمحتاجين، فهي ليست تخيلات وأفكار إنما حقائق ووقائع قد تمر بأي منا، في أي وقت وأي زمان وأي مكان، بل يمر بنا ما هو أكثر من ذلك، وعادة ما تكون استجابتنا أكثر إيجابية في الحالات التي يكون المحتاج فيها مسلماً أو عربياً، وأذكر جيداً عندما أعطيت سترتي ''الجاكيت'' الذي كنت ارتديه لمتشرد جائع ينتفض من البرد في باريس.
واستجابتنا لمطلب من هذه أو كلها ليس تعدياً على حقوق المواطنين, بل هو من مكارم الأخلاق الذي أثنت عليها شريعتنا السمحة، وتجاوزت ذلك لتصبح واجباً إذا كانت الحاجة لمسلم، ويصبح الواجب فرضاً إذا كانت هذه الحاجة لجارك المسلم، فكيف إذا جمع صاحب الحاجة بين الأخوة الإسلامية والعروبة والجيرة معاً؟ وهذا هو منطق المؤيدين لهذه المساعدات الإنمائية إلى الدول المجاورة.
ويصّدق ذلك قول الله تعالى: ''وَاِعبِدوا اللَهَ وَلا تُشرِكوا بِهِ شَيئاً وَبِالوالِدَينِ إِحساناً وَبِذي القُربى وَاليَتامى وَالمَساكين وَالجارُ ذي القُربى وَالجارُ الجَنِب''، ويؤكده قول الرسول -صلى الله عليه وسلم - ''ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع إلى جنبه'', ولم يحدد هذا الجار مسلماً كان أم كافراً، وقوله ''المسلم للمسلم كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً''، وفي ذلك توصية شرعية واجبة من الحق - سبحانه وتعالى - ورسوله الكريم بالإحسان إلى الجيران بمن فيهم الجار البعيد الأجنبي منك، فكيف بالمسلمين منهم؟ ولا شك أن إخواننا في الدول العربية بشكل عام يعتبرون للمملكة من الجيران المسلمين وأصحاب القربي الذين يجب الإحسان إليهم والوقوف إلى جانبهم.
لقد سمعنا عن الأحوال التي تعرض إليها أجدادنا ودفعتهم إلى الهجرة, فمنهم من هاجر إلى العراق وآخرون إلى الشام وغيرهم إلى اليمن ومنهم من هاجر إلى مصر، وتفرق القادرون منهم في أرض الله بحثاً عن لقمة العيش، وقد شهدت الجزيرة العربية أحوالاً كانت تأتيها الأرزاق والصدقات من اليمن ومصر والسودان والعراق والشام، ومن واجبنا اليوم أن نحسن إلى من هم في حاجتنا من إخواننا ومن يجمعنا بهم حق الإسلام وحق العروبة وحق الجوار، والأيام دول فقد يكون هناك من نحسن إليه اليوم بمساعداتنا الإنسانية، ويأتي يوم نحتاج فيه نحن أو أبناؤنا إلى مساعدته، ويكفينا في ذلك قول رسولنا الإنسان - صلى الله عليه وسلم: ''لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه''.
موقفي الشخصي ليس محايداً، وإن كنت ضد التأييد المطلق بلا ضوابط، فأنا مع المساعدات الإنسانية للدول الأخرى, وأرى أنها ضرورة للدولة من الناحية السياسية، وواجب على الدولة من الناحية الإنسانية والأخوية، لكن بضوابطها التالية :
* أن يتم بذل الجهد في تغطية احتياجات المواطنين، وليكن شعارنا دائما أن أفضل الصدقة نفقة تنفقها على أهل بيتك.
* أن يتم تنفيذ المساعدات على شكل مشاريع تقدم للشعوب سواء عن طريق الصندوق السعودي للتنمية أو عن أي طريق آخر يضمن تنفيذها بشكل صحيح واقتصادي.
* أن يتم التركيز على المشاريع التي تؤسس للبنية الأساسية والمستقبلية أكثر من مشاريع المساعدات التي لا تظهر إلا مع الكوارث والنكبات.
* أن يتم تنفيذ المشاريع عن طريق مؤسسات وشركات سعودية على قدر الإمكان.
* أن يتم الإعلان والإعلام عن المشاريع السعودية المنفذة للشعوب، ليس من باب المنة، لكن حتى لا تسرق جهودنا لمصلحة الغير، كما أنها ستكون من باب ''وإن تبدوا الصدقات فنعما هي''.
كما أذكر المعارضين للمساعدات التنموية بحديث الرسول - صلى الله عليه وسلم ''ما نقص مال من صدقة بل تزده بل تزده''، وقد يكون هذا أحد أسباب بركة الطفرة التي تعيشها السعودية في السنوات الأخيرة.
بل سأتجاوز ذلك التأييد وأدعو إلى الإحسان أيضاً إلى الشعوب غير المسلمة، وهو ما صنفته الشريعة بالمؤلفة قلوبهم، ومن هؤلاء غير المسلمين الذي يرجى بعطيته إسلامه أو إسلام من خلفه، ومنهم من يتم إعطاؤه لكف شره وشر غيره معه، إضافة إلى ما تفرضه علينا مكارم الأخلاق، ففي كل كبد رطبة أجر، وإذا كانت بغي بني اسرائيل دخلت الجنة بسبب كلب سقته ماء، فما هو الحال بربكم في من يطعم ويسقي ويعالج ويعلم البشر؟
أخيرا .. ومع احترامي الشديد لرأي المعارضين، أؤكد هنا اعتزازي وافتخاري بتبوؤ المملكة المركز الأول في المساعدات التنموية على مستوى الدول العربية، في حين لم يتجاوز إجمالي مساعدات صاحب الترتيب الثاني بعد المملكة 10 في المائة من حجم المساعدات المقدمة من المملكة .. فهنيئاً لنا مكارم الأخلاق، وشكراً لكل من أسهم في وصول مساعداتنا الإنمائية إلى المحتاجين إليها، وشكراً لكل مواطن مخلص أسهم أو دعم هذه المساعدات برأي أو تنفيذ أو رقابة.