رحلة الموساد من فضيحة لافون إلى اغتيال المبحوح

في الـ 20 من كانون الثاني (يناير) الماضي عُثر على جثمان محمود المبحوح أحد قيادي حماس في غرفة في فندق البستان في دبي، كانت الجريمة فاضحة لمرتكبيها حيث كانت “على النموذج الموسادي'' بما تحمله من تشابه مع جرائم سابقة لهذه المنظمة الإرهابية التي تتخفى وراء واجهة حكومية.
تأسس الموساد عام 1938 كمنظمة سرية صهيونية لتتحدى نظام الهجرة في فلسطين الذي وضعته سلطات الانتداب البريطانية والمعروف بنظام الحصص. وفي سبيل ذلك قام أفراد هذا الجهاز باغتيالات متعددة داخل فلسطين وخارجها. وشأن كل المنظمات الإجرامية ينزع المجرم إلى تقليد من يعلن أنهم ألد أعدائه. وكان الجستابو الألماني الذي أعلن اليهود أنهم ذاقوا الأمرين على يديه هو النموذج الذي اقتدى به إرهابيو اليهود وهم يؤسسون الموساد. وبتشكيلاته وأساليبه نفسها أقدم الموساد على تنفيذ عديد من العمليات.
والملاحظ أن الموساد لا ينكر قيامه بقتل المبحوح، بل يكاد يتباهى ويعلن صراحة أنه هو الفاعل، والهدف واضح، وهو التخويف والردع وإرسال رسالة تقول إن من قتل إسرائيليا فعليه أن يواجه مصير القتل. وقد اعتبر الإسرائيليون المبحوح مسؤولا عن قتل جنديين إسرائيليين، وكذلك قتله الموساد.
وسوابق الموساد كثيرة، لعل أشهرها فضيحة لافون عام 1954، ولافون هذا كان وزير الدفاع الإسرائيلي، الذي ارتبطت العملية باسمه. وكانت العملية هي عمليات إحراق ونسف مرافق أمريكية في القاهرة لإثارة أمريكا (أيزنهاور – دالاس) على مصر. ولكن الأمن المصري نجح في كشف أبعاد المؤامرة عندما اشتعل جيب ناسوتيون (أحد المجرمين) في دار للسينما في الإسكندرية قبل دقائق من استخدامه العبوة الناسفة، وأُلقي القبض عليه واعترف بأنه يعمل ضمن عصابة من اليهود المحليين بقيادة الدكتور موسى ليتو مرزوق والمهندس صمويل عازار إلى جانب عدد آخر من الوافدين والمقيمين. وكان للضابط ممدوح سالم الذي أصبح وزيرا للداخلية ورئيسا للوزراء دور كبير في كشف العصابة. واستقال لافون وعلقوا الفضيحة باسمه مع أن المنفذ الرئيس كان الموساد صاحب العمليات القذرة. وخرج لافون ولم يذكر أحد اسم الموساد ولكن أسلوبه وعلى الرغم من مرور 55 عاما لم يتغير. فهو يجند مجموعة غير متجانسة ويديرها من الخارج ويمسك بخيوطها ويستخدم جميع أساليب التمويه والتزوير في الأوراق، فقد كان رئيس عصابة فضيحة لافون ضابطا في الموساد حمل اسم مواطن بريطاني وهو ما حدث تماما في جريمة اغتيال المبحوح. حيث تستفيد إسرائيل ممن تسميهم الأوليم Olim وتجند منهم من تشاء، وعند اكتشاف الأمر تدخل الدول التي ينتمي المجرمون إليها ويجري تشتيت الموقف وإثارة الجدل حول هذا وذاك.
وقد نجحت شرطة دبي في إلقاء القبض على عدد من المشاركين في الجريمة، وتابعت بكفاءة خط سير آخرين ليصل عددهم إلى 17 مجرما يحملون جنسيات أوروبية (معظمها بريطانية) وأسترالية وإيرلندية، واكتشفت أعدادا من جوازات السفر المزيفة إلى غير ذلك من ألاعيب الموساد التي لم تتغير. وقد وصل أفراد العصابة جميعا إلى إسرائيل وعددهم 26. ورغم كشف النقاب عن كثير من الحقائق إلا أن الكثير ما زال خافيا وتقوم شرطة دبي بجهد كبير لتقديم مزيد من التفاصيل حول النقاط الغامضة.
والمقارنة بين فضيحة لافون وجريمة دبي تؤكد أن أساليب الموساد واحدة وتتمثل في عدة إجراءات، أولها جمع أعداد من شخصيات أوروبية عاطلة عن العمل وتبحث عن المغامرة والمال، وتجمع مستندات بالاتفاق مع عملائها في الدول التي اختيرت مسرحا للعمليات، اختراع قصص كاذبة لتمرير الجريمة، القتل المباشر على أيدي القتلة المدربين بطريقة المافيا وفرق القتل المحترفة والمرتزقة... إلخ. وقد نفذ الموساد جريمة القتل في اللورد موين في القاهرة عام 1944، وتبع ذلك إعدام المتهمين مثلما أُعدم موسى مرزوق وصمويل عازار عام 1955 في القاهرة أيضا لتزعمهما عصابة لافون. ونصب اليهود المآتم حزنا على المجرمين واعتبروهم شهداء الجرائم المنظمة.
الطريف أن الموساد خرج هذه المرة على أسلوبه التقليدي بالإنكار، وظل يصدر بيانات ويستدعي تحليلات إسرائيلية وأوروبية تعطي الانطباع بأنه هو الذي نفذ. والرسالة واضحة أن حسابات المؤسسة الرسمية لا تسمح بإعلان أخبار عن قيام هيئة لديها بالقتل، ولكن لعبة الإعلام والتهديد تتطلب تخويف الفلسطينيين. وهي لعبة صعبة، إذ سرعان ما ينتقل السلاح إلى أيدي أنصار آخر المقتولين، وهو ما سيحدث حتى تبقى سلسلة القتل والثأر مستمرة. هكذا عرفنا الحياة، منذ استمرأ الإنسان القتل وظن أنه يحل مشكلاته. أما الخط الإعلامي الذي تتبناه إسرائيل فهو “أن الاغتيال سيفتح المجال لمنتقدي إسرائيل لاتهامها بالإرهاب!''، ولكن المطلعين على الثقافة والفكر اليهودي يدركون أن قتل الخصوم جزء لا يتجزأ من الفكر الصهيوني بل واليهودي، وهم يشعرون بنشوة يربطونها بداود عليه السلام وجوليات ويوشع وجميع قادة إسرائيل الذين عذبوا أعداءهم.
وواصل الإسرائيليون التصريحات التي تفيض بالاستخفاف وقالوا إن أي جهة تستطيع تجميع أي جوازات سفر وتنسبها إلى أي فرد. ويصعب أن نتصور ما سيحدث للمغتالين، لأن إسرائيل تعربد بمباركة أمريكية ودعم أوروبي لتفعل ما تشاء، وأغلب الظن أن الرياح ستخبو والعاصفة ستهدأ، وكأن شيئا لم يكن وذلك بفضل الضغوط المعروفة، والتي يدرك الموساد أنها كانت دائما وراء عملياته مع باقة من المقالات التبريرية لكل من يصر على أن الموساد اقترف جريمة.
ويعلق خبير استراتيجي عربي على جريمة قتل المبحوح، بأنها عملية تشي بعمليات مماثلة، خاصة أن إسرائيل تتمتع بحضور قوي في كثير من الدول العربية، مما يوفر لها الأفراد والاختفاء وشراء العملاء مما يمكنها من تنفيذ مزيد من الجرائم فيما يسميه الموساد “الصيد بعد المطاردة''، ويضيف أن دبي كانت نقطة البداية، وقد يجري تصفية آخرين حسب قائمة موضوعة لإرضاء الانتقامية الإسرائيلية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي