اتخاذ القرار بين السرعة والتفعيـل
ترتبط القدرة على اتخاذ القرار دائما بالقيادات الناضجة القوية والواثقة بنفسها والمؤمنة بدورها والمتحملة تبعية اتخاذ القرار، ولهذا تعد كلمة القرار من الكلمات السحرية -كما يقولون، وهي محل جدل دائم, لأن الأخذ بها يضع متخذ القرار أمام عديد من التساؤلات سواء الشخصية أو العامة, منها: هل اتخذ القرار في الوقت المناسب؟ هل القرار صائب؟ كم المؤيدون له؟ ما الانعكاسات السلبية من القرار؟ وغيرها من الأسئلة التي تبرز الشخصية القيادية من الانقيادية.
عندما يتعلق الأمر بالمصلحة العامة فإن اتخاذ القرار وسرعته ومتابعة تنفيذه تصبح من العوامل الحاسمة المؤثرة في التنمية وتوجهاتها وديناميكيتها لأن القرار لم يعد يرتبط بالفرد إنما بمجتمع يتأثر مختلف أطيافه ومكوناته بالقرار المتخذ.
إن عصرنا الحالي عصر يمتاز ويتسم بالديناميكية والسرعة والتعقيدات المتداخلة، مما يصبح معه أمر اتخاذ القرار العام ذا أهمية كبرى يبنى وينطلق من ركيزتين مهمتين هما: أن يكون اتخاذ القرار مبنيا على معلومات صحيحة حديثة ومقيمة وتشرف عليه مراكز دراسية بحثية متخصصة تمثل بكفاءات علمية وعملية مؤهلة تجمع بين الفهم الصحيح لواقع المجتمع والخبرة المكتسبة, والأخرى اتخاذ القرار في الوقت المناسب, لأن عدم استيعاب أهمية ذلك يؤدي إلى أن اتخاذه مثل عدمه أو أن نتائجه في الغالب أقل من المطلوب.
إن أكثر ما يتسبب في تعطيل التنمية والاستفادة من خيرها هو البطء في اتخاذ القرار وتفعيله، ولهذا يشير كثير من الاقتصاديين والباحثين إلى أن من أهم عيوب الدول المتخلفة والنامية أنها تهدر كثيرا من الوقت في المراجعة والبحث والمماطلة في اتخاذ القرار, ما يؤدي إلى ضياع كثير من الفرص التنموية التي كان يمكن تحقيقها لو اتخذ القرار بشكل سريع وصائب ووضعت الآليات اللازمة لتنفيذه.
إن المتمعن اليوم في تجربة التنمية في بعض الدول المجاورة ليعجب كيف استطاعت القيام بإنجازات هائلة وفي فترة زمنية قصيرة وبإمكانات تنموية وموارد محلية محدودة، وكان نتيجة ذلك الهيمنة على السوق المحيطة وجذب الاستثمارات وتحقيق العوائد والفوائد وتخطي كثير من الحواجز البيروقراطية والتعقيدات الإدارية والمجتمعية، تقابلها في الطرف الآخر دول ذات إمكانات مادية وسياسية وموارد طبيعية عاجزة عن تحقيق أبسط متطلبات التنمية الحقيقية المستمرة والمستدامة، كما أنها غير قادرة على وضع قدمها بشكل صحيح في السوق بالصورة المطلوبة والإنجاز المرجو.
إن السبب الحقيقي يكمن فيما سبقت الإشارة إليه من أهمية سرعة اتخاذ القرار ومتابعة تنفيذه وإزالة جميع العقبات التي تقف في طريقه من منظور المصلحة العامة لا منظور المصالح الشخصية الآنية المضرة بالتنمية ومستقبلها واستقرار البلاد ومتطلبات سكانها.
إن اللافت للنظر في عديد من القرارات التنموية هو البطء في اتخاذها ومرورها بكثير من الهيئات واللجان التي تصرف فيها آلاف الساعات إن لم تكن الأيام، ليس للتمحيص أو التطوير وإنما يغلب عليها جهل عديد من أعضائها بالموضوع المطروح وأهميته وانطلاق بعضهم من آرائه الشخصية وتمثيله ذاته والدخول في تفاصيل لا يحتاج إليها الأمر المطروح, ما يعوق سرعة اتخاذ القرار ويعطل التطوير والتنمية، والشواهد في هذا المجال كثيرة, ولو راجع كل واحد منا نفسه لوجد عديدا من القرارات التي يعرفها ويعرف أهميتها وكيف أن التأخر فيها أدى إلى فقد عديد من الفرص التنموية في وقتها.
من جهة أخرى يعتمد بعض المسؤولين في محاولة لعدم اتخاذ القرار سواء بسبب عدم القدرة على تحمل النتائج أو لضعف معرفته بأهمية القرار, على رفعه إلى جهة أعلى حتى تتولى مسؤولية اتخاذه، وبهذا تعطل كثير من القرارات بسبب هذا الضعف القيادي وعدم القدرة على تقدير الأمور ومعرفة ما يجب أن يتخذ فيها من قرارات وما يجب رفعه إلى السلطة الأعلى حتى ولو كان الأمر هروبا من المسؤولية وتحميلها للغير. كما أن المركزية وعدم التوسع في منح الصلاحيات للأجهزة الإقليمية والمحلية ودفعها لتحمل مسؤوليات اتخاذ القرار في مناطقها وتطوير الأنظمة اللازمة لمنح هذه الصلاحيات والمسؤوليات من خلال تطوير الأجهزة التشريعية والرقابية, خصوصا الإيجابية منها التي تساعد الأجهزة المركزية على التأكد من حسن الأداء وضمان التطوير دون الدخول في التفاصيل، سيؤدي إلى الإطالة في الإجراءات واتخاذ القرارات بما يعوق تطوير مختلف المناطق، ويصيب الأجهزة فيها بالملل والإحباط وتحميل الأجهزة المركزية مسؤولية تخلف وتأخر مناطقهم, هذا ليس هدف أو طموح أي من المسؤولين في مختلف الأجهزة.
إن المرحلة المقبلة ومتطلبات الأجيال تتطلب الدفع بقراراتنا نحو السرعة في اتخاذها والعمل على تفعيلها، كما أنها تتطلب الخروج من نفق الأمثلة الشعبية التي تحض على عدم العجلة وغيرها التي نسمع عنها وتدفعنا إلى الإحباط وعدم الإنجاز. إن عصر العولمة ووسائلها الاتصالية العالية والتنافس الحميم بين المدن والدول وسعيها إلى أن تكون لها مكانة تنموية عالمية مستدامة يتطلب منا جميعاً الالتفاف والالتفات نحو الاستثمار الجيد في مواردنا وإمكاناتنا التنموية المتوافرة, التي تعتبر- ولله الحمد - إمكانات عالية ومتنوعة في مختلف مناطق المملكة, وتوجيه القيادات القيادية لإدارتها واستثمارها, تلك القيادات القادرة على اتخاذ القرار التي لا تغرق في شبر ماء ولا تحتاج إلى من يوجهها ولا تخاف من تحمل المسؤولية وتعلم أن المؤمن العامل أحب إلى الله من المؤمن العابد.
وقفـة تأمـل:
''قمة العظمة أن تبتسم وفي عينيك ألف دمعة, وقمة الصبر أن تسكت وفي قلبك ألف جرح يتكلم، وقمة الألم أن يجرحك من تحب، وقمة الحب أن تحب من جرحك، وقمة الوفاء أن تنسى جرح من تحب''.