سُلوكنا الاقتصادي ونضج التوقعات!!
في بداية السبعينيات الميلادية حصلت الطفرة النفطية - المالية - الأولى وقد أحسنت الدولة في مساعيها الجبارة لتوظيف الفوائض النفطية الهائلة في ذلك الوقت، من خلال العمل الجاد على تهيئة البنية الأساسية غير الموجودة أصلاً من مشاريع متنوعة تكفل لأية قاعدة إنتاجية سُبل النجاح. وفي خطوة حضارية مُتميزة دشنت المملكة أول خطة تنموية لها 1970 وهي تهدف من وراء ذلك إلى إجراء تغييرات جذرية وشاملة في طبيعة اقتصادها الوطني من اقتصاد صغير، مُتخلف، وأُحادي المصدر إلى اقتصاد مُتنوع وذي قاعدةٍ إنتاجيةٍ عريضة، بحيث يُحقق نقلة نوعية وكمية في أدائه ويرفع العبء عن كاهل الاقتصاد المُعتمد على مصدر رئيس عن طريق إيجاد روافد جديدة للدخل وتخفيض سقف الاتكالية الاقتصادية على النفط الضاربة أطنابها في كل الاقتصادات الريعية. لقد كان من ضمن الأولويات التركيز على تنمية المشاريع الصناعية الأساسية ذات الطابع الثقيل لتساعد القطاع الخاص الصغير نسبياً غير القادر على القيام بها، كذلك العمل من خلال مؤسسات الدولة للتحكم في السياسة المالية والنقدية عن طريق السيطرة على النفقات الحكومية والعمل على توجيهها وبما يدعم القطاع الخاص بجانب الاهتمام الأكبر في توفير الرفاهية للمواطنين قدر الإمكان والإمكانات، ناهيك عن تقديم الحوافز للمصدرين وزيادة المُدخرات المحلية الحكومية لتغطية نقص المُدخرات الخاصة ضمن جُملة من المُحفزات الاقتصادية الداعمة للتنمية، ولهذا نجد أن الدولة قد ركزت جهدها بشكل عام على تعزيز المشاريع العامة العملاقة لخدمة القطاعات الإنتاجية. إن الخطوة الكُبرى تمثلت في تطبيق التخطيط بحيث يتم استخدام جهاز الأسعار كأداة للتخطيط على الرغم من أنه لم يُطبق بشكل شامل، حيث إن الدولة - رعاها الله - تنظر من زاوية المواطن مادفعها إلى تحمل كثير من الأعباء المالية نيابة عنه. بيد أن التوقعات تأخذنا يمنة ويسرة، فمرة تضعنا في القمة ونشعر بالنشوة والزهو ونبدأ بوضع استراتيجيات تهدف إلى رفع سقف الإنفاق ونتوجه إلى التحسين كالرصف والتشجير في بلد نحن أبناؤه ونعلم علم اليقين أن الماء فيه ثروة يجب المحافظة الشديدة على مصادرها الشحيحة والعمل على تنميتها بكل ما أوتينا من قوة، ناهيك عن العمل البطولي لتنميها. فعلى سبيل المثال في بداية السبعينيات كان إجمالي إيرادات الدولة ما يقارب 5668 مليار ريال ثم قفز إلى 284650 مليار ريال بداية الثمانينيات الميلادية، ثم انخفضت مرة أخرى ومن ثم تأرجح إلى أن قفز إلى 555000 مليار ريال عام 2005. ومرة أخرى يأخذ التشاؤم طريقه إلى نفوسنا مع كل هبوط للإيرادات الحكومية، ونتحسر أشد الحسرة والندم على مافرطنا في مُدخراتنا وللأسف أصبح هذا ديدننا، بحيث أصبح سُلوكنا العام يعتمد وبشكل كبير على التوقعات وإن كان الواقع في كثير من الأحايين لايؤيد هذه التوقعات، فعلى سبيل المثال لا الحصر أظهرت بعض التقارير الاقتصادية أنه وبالرغم من الظروف الاقتصادية الدولية التي تلت الأزمة المالية الحالية إلا معدل النمو للمملكة وصل إلى 9,3 في المائه عام 2009 ومن المتوقع أن يصل إلى أكثر من 4 في المائه عام 2010. مثل هذه التوقعات المُفرطة في التفاؤل قد تدفع إلى المزيد والمزيد من الإنفاق دون أن نأخذ في الاعتبار المنظور الكلي للواقع الاقتصادي الوطني بجميع تعقيداته وتداخلاته الخارجية.
وحتى نكون منصفين لابد أن نؤكد أن بيت القصيد ليس الإغراق في التشاؤم بل لابد أن يكون هناك توازن نسعى لإيجاده بحيث نضع الأمور في مكانها الصحيح كي لا تتجشم الدولة - رعاها الله - عناء الديون التي مررنا بتجربتها وما زلنا ندفع ثمنها من عرق اقتصادنا الوطني. مرحلة الازدهار الاقتصادي والوفرة المالية التي أعطتنا الفرصة لتحقيق احتياجاتنا من السلع الاستهلاكية والتنموية قد لا تستمر بصورتها الحالية في المستقبل المنظور، وهذه الحقيقة مرتبطة بمتغيرات كثيرة منها الداخلية والخارجية وجميعها مرتبطة بالظروف السياسية الإقليمية والدولية.
فالتخطيط الكلي القياسي بعيد المدى بجميع متغيراته، والتعليم والتدريب من المشاكل الأساسية الواجب إصلاحها وبأقصى سرعة ممكنة كونها تعاني فجوات يصعب ردمها في فترة زمنية قصيرة. وحتى نستطيع مواكبة المستجدات الدولية وجب علينا مراجعة شاملة ودقيقة لكل السياسات التي تم رسمها في السابق وما زالت تحت التطبيق كونها تعاني خللا واضحا، ولعل التصدي لمثل هذه المشكلات يتطلب جهوداً جبارةً حتى نتجنب تخلفنا في البناء الاقتصادي الوطني وضياع الفرص الاقتصادية وهدر الموارد المالية والتي قد لا تتكرر في المستقبل، مع العلم أن المحاور الاقتصادية بل المنظومة الوطنية كُلها قائمة على الإنفاق الحكومي الذي يسير في ركاب خطط غير قادرة على مواكبة التغيرات الاقتصادية والجيوبوليتيكية. ومع ذلك يبقى المصدر الرئيس للدخل يتأثر بشكل أساس بعوامل خارجة عن إرادتنا من ناحية الإنتاج والتسعير وحتى اللحظة لانملك القدرة الكافية للتحرك الديناميكي والفاعل لمواجهة مثل هذه التأثيرات الحادة الخارجية، ناهيك عن التغيرات الاجتماعية والثقافية الداخلية من زيادة مطردة في عدد السكان وما يتبعها من تغيرات سلوكية اجتماعية وانعكاساتها الاقتصادية.