القدس والقمة العربية
أنهت القمة العربية أعمالها في ليبيا، وانفض سامرها بعد صدور بياناتها وقراراتها التي أبرزها وجديدها هو تعيين مفوض سام للقدس، ورفع مبلغ الدعم المالي إلى خمسمائة مليون دولار لدعم القدس التي تتعرض، وبوتيرة عالية منذ مجيء حكومة يمينية هي الأشد تطرفا وعنصرية، لعمليات تهديد فاضحة تحت غطاء توسع استيطاني استفزازي وغير مسبوق في محيط مدينة القدس، ناهيك عن إجراءات عملية هي مقدمات لإعادة بناء هيكل اليهود الثالث المزعوم، من خلال إعادة بناء كنيس «الخراب» الملاصق تماما للمسجد العمري المغلق، ولا يبعد إلا لعشرات الأمتار عن جدار الغربي للمسجد الأقصى، ورمزية إعادة بناء هذا الكنيس الخطير تعود لتنبؤ حاخام يهودي عاش في عام 1750م، بأن يوم إعادة بناء هذا الكنيس، هو يوم إعادة بناء الهيكل الثالث المزعوم، وهو ما يؤكد تلك الاحتفالية الدينية والرسمية التي صاحبت افتتاحه.
جاءت تسمية القمة العربية الثانية والعشرين بقمة دعم صمود القدس، على وقع ما تتعرض له مقدساتنا الإسلامية فيها من عمليات تهديد وتهويد خرجت من مجال الادعاءات اللفظية، لنطاق الإجراءات الفعلية والعملية الاستفزازية على الأرض من قبل حكومة العدو المكونة من عصابات اليمين اليهودي العنصري، فالقدس باتت فعلا في مجال التهديد الفعلي، وعلى مشارف تهور صهيوني بقيادة نتنياهو المعروف بغروره وغطرسته، مع ليبرمان المشهود له بالنزق وفقدان الكياسة وحسن التصرف، وقوى يمين صهيوني متطرف مسكونة بهوس الأساطير والخرافات، وهو تهديد قد نصحو صباح يوم فيه لنجد المسجد الأقصى وقد تهاوى وانهار بسبب ما تعرضت له أساساته من حفريات كان الغرض منها ليس التنقيب عن آثار هيكلهم المزعوم، والتي لا توجد عليه أي أدلة أثرية حتى اليوم، بل بغرض إضعاف أساساته ليتساقط بعد ذلك من ذاته.
على هذه الخلفية المفزعة جاء تعيين مفوض عربي سام للقدس، وتخصيص مبلغ خمسمائة مليون دولار لدعم صمودها، وهي خطوة جيدة من حيث الشكل، ويبقى المضمون والإجراءات الكفيلة بمدى فاعلية آلية المفوض، فما تتعرض له القدس من مخاطر حقيقية تهدد هويتها العربية والإسلامية وحتى المسيحية، يحتاج إلى جهد وضغط عربي وإسلامي كبير على المجتمع الدولي ومؤسساته الفاعلة، وليس مجرد شكوى وتظلم وطلب تدخل من هذا المجتمع الدولي وهيئاته ومنظماته، فقضية بحجم وخطورة القدس وتعقيداتها الدينية، وتحويل اليهود الصهاينة لخرافات ومجرد أساطير توراتية صهيونية لحقائق مزيفة يزوّرون من خلالها وقائع التاريخ، ويغتصبون بها حقوق الآخرين، تتطلب تكاتف الجهود العربية والإسلامية مع جهود مسيحيي الشرق وكنائسهم بممارسة ضغوط حقيقية وفاعلية مختلفة سياسية وغير سياسية على المجتمع الدولي من ناحية، ودعم أبناء القدس وسكانها العرب مسلمين ومسيحيين لمواجهة مخططات تهويد القدس على حساب هويتها الإسلامية والمسيحية من ناحية أخرى، فالمجتمع الدولي بات محكوما بموازين القوى، بقوانينه وتشريعاته التي لا تطبق إلا على الضعفاء وغير القادرين على اتخاذ المواقف الصحيحة وفي الوقت المناسب، ولهذا فلن تكون له مواقف إيجابية ما لم يبرز موقف عربي إسلامي وضاغط.
مشكلة القمة العربية أن امتحان قراراتها ومواقفها نتائجه سلبية بكل أسف، فجميعنا نذكر كيف ردت حكومة سيئ الذكر شارون على المبادرة العربية في قمة بيروت عام 2007م باجتياح الضفة الغربية بوحشية منقطعة النظير، ومع ذلك استمر طرحنا لها وتمسكنا بأن السلام هو خيار استراتيجي، والخوف اليوم ومع صدور قرارات قمة سرت الليبية حول القدس، أن يندفع نتنياهو وليبرمان، وكلاهما لا يقلان سوءا وعنصرية ودموية عن شارون، لمزيد من تهويد القدس، بل الإقدام بالتعرض لجزء من المسجد الأقصى لضمه إلى مقدسات يهودية كما فعلوا مع الحرم الإبراهيمي، تمهيدا لبدء إجراءات بناء الهيكل الثالث المزعوم الجاهزة والمنتظرة فقط الظروف الملائمة، والتي يخشى فعلا بأن الوضع العربي والدولي يوفرها حاليا مع فشل قوة الردع لحكومة نتنياهو، كما فشل في منعها من الاستمرار في عمليات البناء الاستيطاني في القدس، والذي تحدت فيه حتى حليفتها الكبرى وولية نعمتها الولايات المتحدة، والذي وصل لأن تقف السيدة كلينتون لتصفه بالإهانة لإدارتها، دون اتخاذ أي موقف يرد فيه على ما وصف بـ «الإهانة»، التي زاد فيها نتنياهو بإصراره على المضي في الاستيطان بعد عودته من واشنطن مباشرة.
من السهل اتخاذ القرارات وإصدار البيانات، ولكنها ستبقى مجرد حبر على ورق ما لم تكن ذات قيمة عملية تعكس جديتها، وقمة دعم صمود القدس مطالبة بأن تقرن قراراتها بإجراءات عملية وفعلية تشعر المجتمع الدولي وكيان العدو بأن هناك تغيرا نوعيا في الموقف العربي والإسلامي حيال القدس وتهويدها، ومن مجمل الصراع مع العدو الصهيوني يخرجه من حالة الضبابية إلى حالة الأفعال، فحكومة نتنياهو لن تلجمها مجرد قرارات، بل إجراءات تجعلها تدفع ثمنا باهظا لتحدياتها وتعدياتها واستهتارها ومنها إهاناتها الفجة.