الأمير سلطان .. رباطة جأش لا توصف في موقف حزين

شُرفت مع زملائي منسوبي جامعة الملك فهد للبترول والمعادن بالزيارة الكريمة التي قام بها الأمير سلطان بن عبد العزيز ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع والطيران والمفتش العام؛ للجامعة مساء يوم الثلاثاء الماضي؛ والذي دشن خلالها - حفظه الله - عدداً من المشاريع الحيوية.
ولا أخفي شعوري الدفين ونبض قلبي - قبل لهج لساني - بشكر الله ( عز وجل ) الذي مّن على أمير الإنسانية بثوب الصحة والعافية بعد رحلته العلاجية الأخيرة. ولا أخفي كذلك تمردي – غير المقصود - على هيبة الحفل وسرحاني في التفكير؛ حيث عادت بي الذاكرة – تحديداً - إلى أحداث صباح يوم الأحد 21 شعبان 1402هـ. وهو اليوم الحزين نفسه الذي توفي فيه (في مدينة الطائف) الملك الصالح: خالد بن عبد العزيز ـ رحمه الله.
شاءت الأقدار أن أكون بصحبة والدي - رحمه الله- عندما كان في زيارة إلى مجلس الملك خالد – الخاص - في صباح ذلك اليوم. فقد اعتاد والدي بحكم صلة القربى والصداقة مع الملك خالد على أن يحضر المجلس الصباحي. حيث اعتاد الملك الراحل أن يبدأ يومه بالجلوس مع أسرته قبل أن يذهب مبكراً لمباشرة أعمال الدولة.
وصلنا إلى المجلس ولم يكن الملك قد جلس – بعد - كما هو معتاد. وما هي إلا دقائق حتى جاءنا الخبر الأليم بوفاته - رحمه الله - على الفور دخل والدي منطقة السكن الخاصة بالملك، فتبعته. وفي الداخل وجدنا الأمير سلطان بن عبد العزيز، فعزاه والدي (وعزيته أنا على الرغم من صغر سني) وجلس والدي بجواره وقد بدأت ملامح الحزن الشديد واضحة على والدي والأمير. وكان والدي يعاني مرض الباركنسن Parkinson؛ والذي لم يكن يساعد على مثل تلك الحالات. في تلك الأثناء أخرج والدي – رحمه الله - علاجه، وعلى الفور ساعده الأمير على تناوله – وأنا واقفٌ مبهور أنتظر الفرصة الملائمة لكي أقوم بدوري - ولكن تواضع وعطف وسرعة بديهة الأمير حيدت أية محاولة من قبلي. وقد تولد لدي – في تلك اللحظات - انطباع: على الرغم من أن حزن الأمير كان عميقاً إلا أن جميع الأمور كانت تحت السيطرة.
في تلك الأثناء، لم يكن رنين الهاتف الذي كان بعيداً عن مكان جلوس الأمير ينقطع – فكان يأمرني متى أراد. والحق يقال إنه في اعتقادي أن الأمير لم يكن يعرف من أنا - لصغر سني - عدا كوني أحد أبناء الشيخ عبد الرحمن الدامر. وكنت حينها صغيراً لم أبلغ سن الرشد بعد، وكان بالإمكان اعتباري من ضمن الأطفال. ولكن فراسة وحكمة الأمير وبديهته في الحكم علي من تصرفاتي الأولية جعلته يعتقد بكفاءتي ومقدرتي على الرد وأخذ بعض توجيهات سموه حول المكالمات الواردة التي لم تكن - في تلك اللحظات - تنقطع.
كنت أرد على المكالمات وأخبر الأمير عن المتصل، وفي الغالب كان المتصل ينتظر إلى حين أن يرد عليه الأمير الذي زاد انشغاله في تلك الأثناء بوصول ومغادرة بعض الأمراء. فكان هذا دوري في الغالب، وفي حالة أو حالتين من تلك المكالمات وجهني الأمير بأن أقول للمتصل توجيهات محددة منه حرفياً. وقد كان لتلك التوجيهات أهمية، لم يساعدني على ثقة النطق بها عدا توجيهات الأمير الحاسمة وضخامة صوتي الذي يجعل السامع يعتقد أن محدثه كبير سن.
لن أفشي هنا سرا من أسرار الدولة التي تعلمتها عندما قلدتني الصدف أعلى منصب أحصل عليه (حيث إن دوري – في حقيقة الأمر- قد انتفى عندما حضر لاحقاً بديل أكبر وأقدر مني). ولكن خلاصة القول؛ أن الأمير سلطان قد اتخذ أثناء تلك اللحظات قرارات وتدابير مهمة، جعلتني أجزم - في داخلي - بأن جميع الأمور تحت السيطرة، من الخليج إلى البحر ومن الحد الجنوبي إلى الحد الشمالي.
كانت تلك اللحظات استثنائية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وكانت تتطلب تلك القرارات والتدابير الحكيمة. فقد عرفت وفهمت حساسيتها في وقت لاحق عندما جلست على مقاعد الدراسات العليا؛ باعتبارها تعد بمثابة «لحظات الفراغ الدستوري». فهي اللحظات التي أعقبت وفاة الملك وسبقت الإعلان الرسمي، وإعلان مجلس العائلة المالكة – بقيادة الأمير محمد بن عبد العزيز (يرحمه الله) - عن مبايعة الأمير فهد ملكاً والأمير عبد الله وليا للعهد والأمير سلطان نائبا ثانيا لمجلس الوزراء.
لقد كان الأمير سلطان ذا رباطة جأش لا توصف. فعلى الرغم من حزنه العميق - خصوصا أنه كان قريبا وملازماً لأخيه الملك خالد - إلا أنه كان قائداً حكيما وحاسما، أعطى تلك اللحظات المهمة لوطننا ما تستحقها. وقد كان كل ذلك بعيدا عن البروتوكولات والأضواء؛ وما ذلك الموقف إلا واحد من مواقف الأمير الكثيرة.
ولم يقطع سرحاني في التفكير (الذي أبوح فيه من خلال هذا المقال تعبيراً عن عميق حبي لأميرنا المحبوب ووطننا الغالي) أقول: لم يقطع سرحاني إلا ذلك التصفيق الشديد الذي شاركت فيه الحاضرين حباً وفخراً بالأمير - القائد، الحاسم، الحكيم - الذي كان يضغط بيده الكريمة على أيقونة تدشين أحد المشاريع الحيوية في الجامعة.
رحم الله الملك خالد ورحم الله والدي، وأدام على الأمير سلطان ثوب الصحة والعافية، وحفظ الله بلادنا الغالية من كل مكروه.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي