الزكاة وعصر التقنية الفائقة
للبحث العلمي دوره في تخصيب الحياة، إنه حاسة الإنسان العلمية التي تطل به عبر حدقات المعرفة. البحث العلمي أحد شروط التحضر، ولأهميته القصوى في الرقي والتقدم خصصت له الأمم المتقدمة خاصة في أوروبا وأمريكا واليابان ميزانيات ضخمة، أفضت بها إلى أن تمتلك زمام المبادرة التقنية – إذا صح التعبير- في العالم، وأصبحت هذه الدول تنتج معرفتها، وتؤثر بثقافاتها في مختلف هذه المنتجات، على اعتبار أن التقنية هي صوت العالم المتقدم الذي يحمل نبضه، وهويته، وأفكاره، وأسماءه. ولو أحصينا عدد الأجهزة والمبتكرات التي أنتجتها هذه الدول وكيف أثرت بها في مختلف الثقافات العالمية لاحتجنا إلى كثير من الوقت للكتابة، وكثير من الوقت للتأمل، والتساؤل.
وإذا نظرنا إلى ميزانيات البحث العلمي في بلادنا العربية لأصابنا الخجل مما تعانيه هذه المعونات من عوز وحاجة. فهذه الميزانيات لا تسمن ولا تغني من جوع، ولو نظرنا فيما تقوله تقارير المؤسسات العلمية عن هذه الميزانيات لأصابنا الاكتئاب، حيث لا تتجاوز هذه الميزانيات 1 في المائة من إجمالي الناتج المحلي في البلاد العربية، وهي نسبة تدعو للرثاء والأسى.
إن الدعوات التي تصدر هنا وهناك والتي تتمثل في تخصيص جانب من أموال الزكاة للبحث العلمي، لهي دعوات جديرةٌ بالاحترام والقبول، خاصة إذا علمنا أن أموال الزكاة قد لا توجه إلى مستحقيها بشكل أساسي. إن توجه جانب من هذه الأموال إلى البحث العلمي سيزكي فينا حب الروح العلمية، وحب الكشف والابتكار، خاصة إذا علمنا أن أموال الزكاة قد تفوق ميزانيات دول بأكملها.
وإذا تولت جهة مصرفية إسلامية الإشراف على هذه الأموال المخصصة للبحوث العلمية في مختلف المجالات التقنية والفنية والطبية والهندسية والصناعية والزراعية والإنسانية والاجتماعية، فإن هذا سيعود بالنفع على أمة المسلمين، وسينظم طرق ومناهج وآليات البحث العلمي، حيث يجد المبتكر العربي والمسلم صدى ابتكاره بشكل ملموس، ويراه متحققا على أرض الواقع. بدلا من أن تستقطبه أو تجذبه مراكز البحث العلمي الغربية بأموالها ووظائفها الكبرى.
إننا نحيا الآن في بدايات الألفية الثالثة الميلادية، وهي ألفية حافلة بقسمات جديدة منها: الاتكاء على العلم والمعرفة في البناء والتطور، واستثمار كل تقنيات العصر واللحظة فيما يؤدي إلى توسيع رقعة العلم، في مختلف جوانب الحياة، ولم تعد الحياة مجرد شعر ونثر وعادات وتقاليد وكرنفالات واستهلاك منتجات غير المتقدم، بل أصبحت تحتفي بالمتقدم علميا، فهو الأقوى والأميز، وهو الأكثر مساهمة في الحضارة العالمية بوجه عام.
ولعل في توجه خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز – حفظه الله- في تأكيد الحقيقة العلمية، وأن عصرنا هو عصر العلم والمعرفة المتقدمة، تجلى بشكل واقعي في تحويل الكليات في مختلف المناطق إلى جامعات، كما تجلى في إنشاء جامعة الملك عبد الله بن عبد العزيز للعلوم والتقنية (كاوست) وهي الجامعة المترعة بكثير من الوعود والآمال في أن تشكل نواة علمية صلبة لها حضورها الفذ في المملكة وفي المنطقة، حيث تسهم بشكل جلي في حركة العلم والبحث العلمي الإنساني بشكل عام. إن البحث العلمي هو الطريق السديد لصناعة أجيال جديدة، وللدخول بشكل قوي في عصر المعرفة والتقنية الفائقة.