بعد ظهور «إنفلونزا الخنازير المالية».. النظام الإسلامي يقلص الجشع والأرق
في وسط هذه الفوضى المالية العالمية ووجود حلقة لولبية خطرة وسلبية تتحرك جيئة وذهاباً بين الاقتصاد الفعلي والقطاع المالي، ومع انتشار ما أصبح يعرف بتعبير «إنفلونزا الخنازير المالية»، والتي تمت هندستها جينياً على أيدي الأشخاص أنفسهم الذين عهدنا إليهم بمدخرات العمر والأموال التي جهدنا في كسبها، هناك نظام مالي آخر في سبيله إلى الظهور، وهو المصرفية الإسلامية والتمويل الإسلامي.
إن ما نعيشه اليوم هو نتيجة مباشرة للجشع الجماعي لدى الأفراد والمؤسسات والدول، الأفراد الذين كانوا يسعون وراء الحصول على مسكن آخر إلى جانب المسكن الذي يعيشون فيه دون أن يقدروا على ثمنه، والمؤسسات التي راهنت على انهيار بعضها بعضاً من خلال خلق عقود التأمين على الائتمان، والدول التي أفرطت في تكويم الاحتياطيات الأجنبية، ما أضر بعملية التكيف الاقتصادي الدولي.
هذه الاختلالات الاقتصادية الكلية كانت هي المهيمنة في العقد الأخير أو نحو ذلك، وأدت إلى الإضرار الهابط بهيكل آجال أسعار الفائدة، وهذا بدوره حفز الطلب على الأدوات الاستثمارية القائمة على الائتمان التي حققت الزيادة المطلوبة في العوائد. نتيجة لذلك، حدثت ثورة في تعليب وتوزيع الأدوات الاستثمارية القائمة على الائتمان. أطلِق على هذه المنتجات «الابتكارات المالية». وقد صدقنا جميعاً المغالطة التي تقول إن هذه الأدوات المتطورة والمعقدة قادرة على خلق القيمة. من الواضح الآن بعد أن انقشعت الغيوم أن القيمة التي خلقتها تلك الأدوات كانت وهمية في معظمها، وبالتالي كانت مقدمة إلى الطفرة في العمليات البنكية في الظل، والتي كانت تقوم أساساً على الإفراط في الاقتراض. هذه كانت حالة كلاسيكية من التخريب التنظيمي.
نتيجة للتخريب التنظيمي وخلق القيمة الوهمية، نشأ مشهد مركب جديد من الساحة المالية العالمية. كان مركباً جديداً سبَّب الحيرة ليس فقط للأجهزة التنظيمية، وإنما كذلك للمجتمع الاستثماري. وكان شعوراً بالنشوة غير العقلانية. وتغيرت المقدمة التي كانت تقوم عليها العمليات البنكية. واتخذ التوسط الائتماني وتحويل تاريخ الاستحقاق أشكالاً جديدة، وراحت بشكل بطيء ولكن بخطى واثقة تبعدنا على النشاطات الاقتصادية الفعلية، وبالتالي أحدثت انفصالاً بين ما هو حقيقي وما هو مالي. هذا الفصل بين النشاطين، والذي يختلف عن الفصل الذي كان سائداً في مطلع الأزمات، كان هو العامل المساعد لأمر كان لا بد من حدوثه، وهو اختلال شامل في الأمور الاقتصادية والمالية، ويتعين علينا أن نتعامل معه خلال الجيل المقبل.
ومع حدوث التطورات فإن المرء ليستغرب إذا ما كنا قد تعلمنا بعض العبر وما إذا كان هذا النوع من الكوارث سيتكرر. الأجوبة عن هذه الأسئلة تقبع في زوايا التاريخ الإنساني، وهي أننا لم نستفد من أية عبر. والجواب بالنفي للسؤالين معاً. سنتعلم بعض الدروس، ولكنها سرعان ما تُنسى، وستتكرر الحكاية نفسها، ولكن من خلال أسباب وتقنيات مختلفة. الطبيعة البشرية هي التي تعاني الجشع والأرق المزمن. لكن مع النظام المالي الإسلامي، فإن هذين العرضين يتقلصان إلى درجة هائلة. إذ تتم إدارة الجشع بصورة معقولة وبالتدريج، كما أن الأرق يعالَج بصورة جزئية. ويتم ذلك كله من خلال الوجود اللازم للأحكام والمبادئ الشرعية الصالحة لكل زمان ومكان، والتي يجب أن نسترشد بها في إعداد الهياكل وتنفيذ جميع الأدوات المالية.
نظام المصرفية الإسلامية موجود وحي يرزق، وهو ينمو مع الزمن وسيظل باقياً، يركز نظامنا على الكفاءة في التخصيص. وفي حين أن الإدارة الحصيفة على المستوى الكلي تترَك للسلطات السيادية، فإن نظامنا يتعامل مع جميع جوانب الوظائف والمسؤوليات الحصيفة على المستوى الجزئي، وفي حين أننا نمتلك ما نحتاج إليه من أدوات الضبط والربط لإنشاء نظام متين، فإنه ينبغي علينا أن ندرك الحقيقة التي تقول إن هذه الضوابط والروابط يمكن الالتفاف عليها بسهولة، على نحو يشبه ما حدث في النظام المالي التقليدي. السبيل الوحيدة التي نستطيع من خلالها الحؤول دون حدوث ذلك هي من خلال فرض معايير مصممة جيداً ومدعومة من الإشراف التنظيمي القوي. وينبغي أن نركز جهودنا على الكيفية التي نستطيع من خلالها خدمة الاقتصاد الفعلي على نحو أفضل من ذي قبل. نحن نعتقد أننا نستطيع الاستغناء عن هذه الأدوات التركيبية التي أسهمت في تركيع النظام المالي بأسره. لكننا سنظل دائماً جزءاً من الدورة الاقتصادية. نحن لا نمتلك مناعة تامة تحمينا من الظروف الاقتصادية السيئة، لكننا بالتأكيد تلقينا التطعيم الحصيف القوي.
هذه الأزمة الاقتصادية تعطينا فرصة لعرض قضيتنا، وبالتالي نؤكد أننا لن نقبل أن نرتفع على حساب الأجهزة المريضة. نحن نؤمن بقوة أن نظامنا يمتلك مزايا قوية مثل مزايا النظام التقليدي. يسعى كل نظام من النظامين لخدمة العملاء على أفضل نحو ممكن ضمن أنظمة القيمة الإسلامية، التي تحتل مكانة مهمة من حيث التقدير والإجلال. بالتالي، فإن تعايشنا مع بعضنا بعضاً هو أمر لازم ونبيل يجب أن نسعى جميعاً للعمل عليه. إن تعزيز الرفاهية الاقتصادية لعملائنا سيعمل بالتأكيد على تمهيد الطريق نحو انسجام أفضل بين الأمم وبين الديانات والممارسات. هذا مبدأ اقتصادي علمي. وهو المبدأ الذي يحركنا جميعاً.