العواصف المائية على مصر (2)
استعرضت في المقال السابق الاتفاقيات الملزمة التي تحدد حقوق مصر والسودان، ولكن دول المنبع مدفوعة بأجندات أجنبية تتحدث عن تغير الظروف وما يستتبعه من تحلل من الالتزامات وانتهاك للاتفاقيات. وهي قاعدة برزت في الآونة الأخيرة كوسيلة للتنصل من الارتباطات التاريخية. وبذلك تنتهك أشهر قاعدة قانونية وهي ''المتعاقد عبد تعاقده''.
وتقول دول المنبع إن الظروف التي أوجدت الاتفاقيات تغيرت وإن سكانها في ازدياد والاحتياجات التنموية مطردة مما يضطرها للتحلل من اتفاقاتها.
ونسيت هذه الدول أن بريطانيا التي تحكمت في معظم الاتفاقيات أعلنت في وثائق متعددة الأسباب التي دفعتها لزيادة حصة مصر وعلى رأسها:
- إن مصر تقع في العروض الصحراوية الجافة في الشمال، بينما معظم دول المنبع تتمتع بمعدلات أمطار أكبر.
- إن سكان مصر أكبر من كل الدول المذكورة باستثناء أكثرها ثراء بالماء وهي إثيوبيا.
- إن دول المنبع لها منافذ مائية وأنهار وبحيرات إلى جانب الأمطار.
برغم كل ذلك يقول لنا التاريخ إن نقص المياه المتدفقة إلى مصر كان يعني دائما شيئا واحدا وهو المجاعة التي وقعت مرات عدة في مصر في قرون سابقة، وهو ما لم يحدث لأي من دول المنبع قط.
والحقيقة أن الموقف القانوني لدول المنبع في غاية الضعف، وما يطالبون به يدخل في دائرة المشاغبة وإثارة المشكلات، لأن التغيير يجب أن ينصب على ظروف وُجدت أثناء إبرام المعاهدة وأن يكون تغييرا جوهريا، أما التذرع بتغير الأوضاع فهو مبرر ضعيف، ولو أُخذ به لألغيت كافة المعاهدات. وقد أكدت محكمة العدل الدولية عدم جواز التحلل الانفرادي أو الانسحاب أو إنهاء الالتزام التعاهدي تأسيسا على قاعدة التغير في الظروف في حكم قضائي صدر سنة 1973.
وهناك مبدأ الاستعمال البريء للنهر الدولي الذي يدعم موقف مصر والسودان، حيث لا يمكن للدول في أعالي النهر أن تقوم بأعمال أو مشاريع من شأنها الإضرار بالمصالح الطبيعية والمكتسبة لمصر والسودان في مياه النيل. وهذا يعني ألا تنفرد دولة من دول النهر – أو مجموعة من الدول – باستغلال أو القيام بأنشطة هندسية أو غيرها من شأنها الإضرار بباقي دول المجرى أو تؤدي إلى تغيير مجرى النهر أو تحويله أو تعطيل الملاحة فيه. وهذا يُعتبر التزاما بتطبيق مبدأ الانتفاع المنصف، ولذلك نص القانون على:
- التزام الدولة التي تريد إقامة أية أعمال من شأنها التأثير في الحقوق المقررة للدول الأخرى بالتشاور معها مسبقا.
- لا يجوز لأي دولة القيام بأعمال تتسبب في حدوث فيضان أو نقصان في الماء لأي دولة من دول المجرى المائي.
وقد سبقت تلك الغارة الإفريقية الجنوبية حملة إعلامية دعائية ضد مصر بأنها تسرف في استخدام الماء وتحرم دول المنبع من كميات هائلة، علما بأن ما يضيع في البحر الأبيض من مياه النيل لا يساوي ربع أو خمس ما يهدره نهر الكونغو ونهر النيجر اللذان لديهما كميات مياه أكبر من النيل، ولكن أحدا لم يوجه حملات إليهما مع مشاركة بعض دول منابع النيل في حوض هذين النهرين.
ويضيف إلى معاناة مصر الزيادة السكانية الكبيرة وندرة مصادر المياه البديلة (الأمطار – الآبار) أو الاحتياجات الاقتصادية والتنموية المتزايدة، ويكفي أن نذكر أن الهيئة الدولية التي شكلتها بريطانيا والولايات المتحدة والهند من أجل تحديد احتياجات مصر سنة 1920 من مياه النيل، قدرت هذه الاحتياجات بـ 58 مليار متر مكعب سنويا.
نعود إلى نظرة القانون الدولي للاستعمال البريء فنذكر أن:
- جميع الدول يجب أن تعمل من أجل عدم تلويث النهر كما فعلت رواندا وبوروندي إبان المذابح بين الهوتو والتوتسي وامتلاء المجرى بالجثث.
- التعسف في استخدام الحق المكفول لدول النهر يُعد استعمالا غير بريء.
- تتحمل الدولة التي لم تستخدم الجزء المار من النهر الدولي في إقليمها تبعات المسؤولية الدولية بموجب قواعد المسؤولية الدولية المقررة.
وأخشى ما يخشاه المصريون والسودانيون هو تحول أزمة المياه إلى قضية نزاع وصراع قابلة للتصعيد، ومع ضغط الحاجة يزداد التوتر، وهنا يمكن القول إن المياه قد أصبحت سلاحا سياسيا يُستخدم للضغط من قبل قوى أخرى في المنطقة لتحقيق مآرب أمنية وأهداف استراتيجية. ويتردد أن إسرائيل تضغط بكل رصيدها من النفوذ على بعض الدول الإفريقية لمضايقة مصر، وهنا تجني إسرائيل فوائد كثيرة تبرر وتفسر ما يُقال عن تورط إسرائيل. أول هذه الفوائد انكفاء مصر تماما في مشكلات إفريقية ومائية، وبذلك لا يمكن أن تبزغ أية بوادر لمضايقات محتملة في المستقبل مع إسرائيل، إلى جانب محاولة شراء بعض المياه التي رفضت الدول الإفريقية إعطاءها لإسرائيل كهدية مصرية أو كسلعة قابلة للبيع.
والمتوقع أن تتفاقم المشكلة مع وجود من ينفخ في النار ولن يكون القانون الدولي الذي تستند مصر إليه العامل الحاسم في إنهاء هذه الخلافات، لتعدد الخصوم، فضلا عن ترك مصر الساحة الإفريقية إما طائعة مختارة أو مضطرة مرغمة بما أضعف هيبتها ورصيدها بشدة في جنوب القارة.
والمطلوب اتفاقيات متعددة الأطراف لكامل دول حوض النيل لتوزيع المياه السطحية والجوفية لأن مشكلة المياه تفجر مشكلات أخرى مثل البيئة والسكان والمصادر البديلة وطرق استخدام المياه ويجب أن تضع هذه الاتفاقيات في حساباتها مصالح الجميع، حيث يجري التصرف في المياه بصورة متوازنة ليتم استغلالها استغلالا مشتركا في إطار من التعاون لمصلحة جميع الأطراف تفاديا لأي أزمات مستقبلية.