الأزمة اليونانية ومستقبل الاتحاد الأوروبي
يوافق يوم التاسع من أيار (مايو) الذكرى الـ 60 لخطاب وزير خارجية فرنسا روبرت شومان الذي طالب فيه بتوحيد صناعات الفحم والصلب بين فرنسا وألمانيا. وبعد عام واحد وقع الجانبان اتفاقية أصبحت حجر الأساس في إنشاء الاتحاد الأوروبي. ومنذ ذلك التاريخ يحاول زعماء الدول الأوروبية تطوير هذا الكيان. وكان يرقد في أعماق الاقتراح الفرنسي فكرة أساسية مفادها أنه من دون ألمانيا وفرنسا لا يُمكن إنشاء أي صرح اتحادي في أوروبا. ولهذا وافق المستشار الألماني الأسبق كونراد أديناور على الاقتراح الفرنسي، مع التأكيد على أن بناء أي اتحاد لا بد أن يبدأ من الاقتصاد.
وتُعد هذه الخطوة قصة نجاح هائلة, خاصة أن أديناور كان أول حاكم ألماني بعد انهيار ألمانيا النازية, وأن التاريخ الأوروبي ملطخ بالدماء منذ الحروب النابليونية والحرب السبعينية (بسمارك), والحرب العالمية الأولى (1914 – 1918), والحرب العالمية الثانية (1939 – 1945) – ولذلك فإن التوصل إلى صيغة اتفاق بين هؤلاء الأعداء يُعد أمرا جديرا بالإعجاب والجدية في التنفيذ. ومصداقا لذلك فقد تطور الاتحاد الأوروبي من دولتين إلى 27 دولة. وهذا دليل قاطع على أن فكرة الاتحاد والاندماج الأوروبي فكرة قوية وجذابة.
ولقد شهدت عملية الإدماج عديدا من التقلبات ولكن الأزمة اليونانية وباعتراف معظم الأعضاء الأوروبيين في الاتحاد تأتي على رأس الكوارث في تاريخ التجمع. ورغم أن الاتحاد وصندوق النقد الدولي قد اتخذا خطوات وإجراءات تفيد في علاج المشكلة التي يصاحبها معاناة يونانية شديدة لتنظيم بيتها فضلا عن الاعتماد على دفع مبلغ من المال دفعة واحدة بصورة لم يسبق للاتحاد الأوروبي أن قام بها، إلا أن نجاح هذه الجهود ما زال أمرا يكتنفه الغموض بغض النظر عن النجاح الحالي في احتواء المشكلة مؤقتا ومحاولة تجنب انتقالها إلى دول أخرى أعضاء في الاتحاد.
ولا يوجد اقتصادي واحد يستطيع أن يجزم بأن أزمة اليونان لن تتكرر في دول أخرى أعضاء في الاتحاد.
وفي ورقة كتبها رئيس وزراء بلجيكا ''تندمانز'' حول مستقبل أوروبا قال: ''إن بيتا تم تشييده بصورة رائعة من ناحية واحدة فقط لا يمكن له أن يصمد مع الزمن''.
فهل يعني ذلك أن المستقبل ينذر بالانهيار؟ وعلينا أن نتذكر أن تندمانز ''وحدوي'' للنخاع, وهو شديد الإيمان بالاتحاد، ولكن على الجانب الآخر علينا أن نتنبه إلى أن المشكلة اليونانية رأس جبل الثلج وهي عَرَضُُُ لعدد كبير من المشكلات على المستويات السياسية والاقتصادية والمؤسسية, وهي مشكلات حقيقية تؤرق الاتحاد منذ زمن طويل، وتعكس غياب القدرة على حلها. ولتبسيط الأمر نطرح السؤال:
هل يحتاج الاتحاد الأوروبي بشكله الحالي إلى اتخاذ قرارات حول مواصلة سعيه على المنوال الحالي، وهو المنوال الذي بدونه يفقد الاتحاد جاذبيته وأهميته كلاعب مؤثر في التوازن العالمي للقوى؟
والإجابة هي: نعم
وسؤال آخر: هل سيتم اتخاذ هذه القرارات في المستقبل القريب؟
والإجابة: إن هذا أمر مثار شك كبير
ولنراقب تصريح المستشارة الألمانية إنجيلا ميركل يوم الخامس من أيار (مايو) 2010 في البوندستاج (البرلمان الألماني) خلال مناقشة حول الموافقة على الدعم المالي لليونان حين قالت ''إن القرار الذي سنتخذه هنا في ألمانيا سيحدد البعد السياسي – التاريخي للمشكلة. وأضافت ''يندر أن نقع في مشكلة كهذه، حيث لا سابقة لها، وإن كان لها آثار آنية ومستقبلية على ألمانيا وعلى أوروبا بأسرها. واختتمت المستشارة حديثها بأن ألمانيا تقف في مفترق الطرق.
وفي جميع الأحوال ومع اختلاف ردود فعل البعض, فإن الحقيقة الثابتة تتمثل في أن ما حدث في اليونان فرصة لاتخاذ قرارات تعترف بالجانب السياسي – التاريخي للأزمة وتمنحه بعض الأولويات، وهذا يعني أن قادة أوروبا – خاصة الدول المهمة – عليهم أن يتخذوا قرارات لا تتمتع بالشعبية، إذا أرادوا أن يمضوا قدما لتطوير الاتحاد للبلوغ به إلى القمة المرموقة، ليصبح صاحب قرار دولي يسهم في إدارة العالم.
والطريقة التي عالجت بها الدول الأوروبية الأزمة على المستويين المحلي والأوروبي تبين التناقض الكبير في تناول الأزمة، فإلى جانب قبول قائمة طويلة من القرارات لمنع تكرار الأزمة اليونانية (مثل تأسيس صندوق طوارئ لمنع انتشار الأزمة مع فرض عقوبات على الدول التي لا تفي بالتزاماتها كأعضاء في الاتحاد) هناك توجه آخر ينطوي على قبول قرارات كبيرة مثل الاتحاد المالي والتوسع في التكامل الاقتصادي يتجاوز تقديم المساعدات العاجلة. ومنع انتشار الأمراض الاقتصادية كذلك الذي أصاب اليونان. وبيت القصيد هنا هو أنه من أجل اتخاذ خطوات مهمة نحو التكامل السياسي قد يتطلب ذلك تقديم تنازلات قد تمس سيادة بعض الدول. وفي إطار الظروف الحالية, فإن أمرا كهذا يعد بعيد المنال, خاصة أن دول الاتحاد الكبرى لم تبد اهتماما بهذا التوجه في السنوات الأخيرة.
وعلى العكس من هذا فقد لُوحظ اتجاه نحو تأكيد الأنا السياسية والاعتبارات الوطنية والمحلية على حساب التوجهات الوحدوية والارتقاء بالمصالح الأوروبية. وخير مثال لذلك ألمانيا، فعندما انتخب شرودر مستشارا عام 1998 اختلف عن سلفه هلموت كول الذي كان ينتمي إلى جيل من الساسة الألمان يؤمن بالاندماج والوحدة، وكان يدعم الوحدة الأوروبية، ويؤيد توحيد العملة، أما شرودر الذي جاء إلى ألمانيا موحدة فكان يحرص على دعم جبهته الداخلية. وقد صرح شرودر بأن ''المصالح الألمانية ستتحدد في برلين وليس في بروكسل''، وهو تصريح له مغزاه ويعكس مدى النزعة الوطنية على حساب الأوروبية. وتواصل ميركل سياسة شرودر، أما ساركوزي فيمضي أيضا على خطى شيراك واتبع سياسة تعطي الأولوية للمصالح الوطنية، أمام بريطانيا فهي أكثر تطرفا لأنها فضلت منذ مراحل مبكرة الاعتبارات الوطنية على حساب الأمور الأوروبية.
لقد أكدت الأزمة عجزا واضحا في روح المساعدة, خاصة على صعيد المواطنين. وقد اتضح ذلك في فتور حماس النخبة السياسية للدول الأعضاء في مؤسسات الاتحاد الأوروبي بل وفي نوعية الموظفين والخبراء الذين يتم إرسالهم لتمثيل بلادهم, بل إن هناك مدا متصاعدا من الامتعاض ضد قيادة الاتحاد التي تتهم كوادره بالتعالي. ويبدو كل ذلك واضحا في ضعف الإقبال على الانتخابات الأوروبية، وإزاء كل ذلك لا يتحمس زعماء الدول الأوروبية على اتخاذ مزيد من الخطوات لدعم الاتحاد ويعطون الأولوية لدولهم للحصول على شعبية مواطنيهم.
ومن أخطر ما يخشاه كبار قادة الاتحاد الأوروبي من جراء الأزمة اليونانية احتمالات اهتزازات اليورو، ولكن الخوف من تكرار الأزمة جعل فرنسا وألمانيا تضغط على الدول الصغرى في الاتحاد حتى تتعرف بسرعة إلى مكامن الضعف ونقاط الانفجار الاقتصادية المحتملة, ونظرا لأن الأزمة اليونانية أثبتت أن العلاج يكمن في الهيكلة, وليس في العلاجات الجزئية، فإن الدول الأضعف اقتصاديا (إسبانيا – البرتغال – إيرلندا) تتلقى التحذيرات. وبصفة عامة, فإن الاتحاد الأوروبي يعاني كبوة قد تقضي على قوته العالمية، خاصة مع اتجاه زعمائه إلى التركيز على أوطانهم.