تجاربنا التربوية .. وغياب التوثيق
يحفل الميدان التربوي بعديد من التجارب الثرية في المجالات التربوية والتعليمية المختلفة ، حتى لا تكاد تخلو مدرسة من تجربة أو مبادرة للرفع من مستوى الكفاءة التعليمية، أو لعلاج مشكلة ما، أو غرس قيمة أو تنمية مهارة، وبغض النظر عن التباين الكبير بين هذه التجارب وتلك المبادرات في فاعليتها، وأهمية الأثر الذي تحدثه، بل صحة إجراءاتها بالاتساق مع المعايير التربوية، واستنادها إلى أساس نظري سليم، إلا أنها تبقى محدودة الأثر بزمن ومكان تطبيقها، داخل مدرسة ما أو مكتب إشراف تربوي أو حتى إدارة تعليمية معينة، وأيضاً فإنها تبقى منبتة عن التجارب قبلها وبعدها في السياق ذاته، بسبب غياب التوثيق العلمي.
وإذا كان الحديث هنا عن التجارب التي تنبع من الميدان التربوي، وليست التي تتبناها الجهات المشرفة على التعليم، فإن الواقع يؤكد فاعلية وجدوى تلك التجارب بسبب مستوى الالتزام والدافعية بل الحماسة التي يتسم بها العاملون على تنفيذها، نظراً لكونها نابعة من حاجات حقيقية لمسوها في مجال عملهم، إضافة إلى أنها تمثل فكرهم.
ولعل المطلع على بعض التجارب التربوية في عدد من دول العالم، والتي يتم الاحتفاء بها في بعض المحافل التربوية، يجد أنها لا تختلف كثيراً عن مجموعة كبيرة من التجارب والمبادرات التربوية لدينا، إلا أن الفارق يكمن في التوثيق العلمي، الذي يضمن تحقيق اتساقها ضمن التراكم المعرفي وبالتالي تحقيقها التقدم على المستويين العلمي والتطبيقي.
وتعتمد العلوم التربوية بشكل كبير على التجريب في تطوير الممارسات التربوية وزيادة كفاءة التعليم، غير أن ذلك التجريب وطرح المبادرات والمشروعات سيكون ذا جدوى في سبيل تطوير العملية التعليمية إذا كان يستند إلى أسس نظرية سليمة ويحتكم للمعايير التربوية، والمهم إضافة إلى هذا وذاك وجود التوثيق العلمي للتجربة، فتخيلوا معي لو تم توثيق التجربة ورصدها بطريقة علمية شملت دراسة واستقصاء أثر التجربة، ثم أتيحت للميدان التربوي من خلال إصدار دوري علمي.
وأظن أن إدارة البحوث التربوية في وزارة التربية والتعليم لديها من الإمكانات ما يؤهلها للقيام بهذا الدور، من خلال تحديد معايير تطبيق التجارب التربوية، بحيث تتم استفادة الميدان من تلك المعايير عند التطبيق، ومن ثم يتم الرفع بالتقارير لإدارة البحوث التربوية، التي بدورها تقرر أحقية التجربة بالتوثيق من عدمه، لتقوم بتكليف فريق علمي من الباحثين بدراسة التجربة ميدانياً وتوثيقها علمياً، ويتم نشر الدراسة في مجلة دورية علمية للتجارب التربوية، وأيضاً يتم عرضها ومناقشتها في مؤتمر أو ورشة عمل علمية، لكي تحظى تلك التجارب بالاحتفاء اللائق، وتبقى تلك التجارب معيناً للمؤسسات التربوية المختلفة، وليمثل ذلك خطوة في سبيل تحقيق نوع من الاعتماد التربوي للتجارب.