استثنوا بريطانيا من سياسة جلد الذات
على المملكة المتحدة أن تشدد السياسة المالية والنقدية في الوقت الحالي، الذي تجد نفسها خلاله في أعماق هبوط حاد. هذا من حيث الجوهر ما تدعو إليه منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في أحدث تقرير للتوقعات الاقتصادية صدر عنها. وأتساءل شخصياً ما كان جون ماينارد كينز سيكتب رداً على ذلك. وأتخيل أن رده كان سيكون وحشياً.
تجادل منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية بالقول: «إن المركز المالي الضعيف ومخاطر الزيادات الكبيرة في عائد السندات يجعل تقليص مزيد من العجز والديون التراكمية أمراً ضرورياً. ويجب تقييم الحالة الضعيفة للاقتصاد مقابل الحاجة إلى تأكيد الصدقية حين يتم تقرير الوتيرة المبدئية لتقليص العجز والديون التراكمية، لكن يجب الإعلان عن وجود خطة تقليص ملموسة، وبعيدة الأثر، مباشرة». وعلاوة على ذلك، يجب أن يبدأ التشديد النقدي في الربع الرابع من هذا العام، ورفع أسعار الفائدة إلى 3.5 في المائة بحلول نهاية عام 2011.
دعونا نترجم هذا الاقتراح إلى لغة عادية: «إذا لم تكن على استعداد لتجويع نفسك وأنت مريض بشدة، فلن يصدق أحد أنك ستتبنى نظاماً معقولاً حين تشفى». لكن أليس من المنطقي أن تتحسن حالتك أولاً؟
إليكم بعض الحقائق من أجل ضبط حالة الجنون: اقتصاد المملكة المتحدة يعمل بأقل من 10 في المائة على الأقل من اتجاهه في فترة ما قبل الأزمة، وتقدر منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية «فجوة الإنتاج» ــ أو الطاقة التشغيلية الزائدة ــ بأكثر قليلا من نصف هذا الإنتاج الضائع، والحكومة البريطانية قادرة على الاقتراض بأسعار فائدة فعلية دون 1 في المائة، كما يظهر العائد على السندات الحكومية المرتبطة بمؤشر، ويبلغ العائد على السندات الحكومية لمدة 10 سنوات 3.6 في المائة، وكانت نسبة إجمالي الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي 68 في المائة عند نهاية العام الماضي، مقابل 73 في المائة في ألمانيا، و77 في المائة في فرنسا، وبمتوسط 87 في المائة منذ عام 1855، ومتوسط الاستحقاق للدين البريطاني نحو 13 عاماً، وذلك وفقاً لتقرير المراقبة المالية الصادر عن صندوق النقد الدولي. نعم لقد ارتفع التضخم الأساسي إلى 3.2 في المائة، لكن بالكاد يشكل ذلك مفاجأة بالنظر إلى الانخفاض الكبير ــ والأساسي ــ في قيمة الاسترليني.
فوق كل ذلك، تتوقع منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن يدير القطاع الخاص فائضاً ــ تجاوز الدخل للإنفاق ــ يبلغ نحو 10 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي هذا العام. وعلى أساس مدمج، فإن فائض القطاع الخاص في المملكة المتحدة يمول قرابة 90 في المائة من العجز المالي. وبالتالي، التشديد المالي ينجح فقط إذا تزامن مع تعافٍ قوي في القطاع الخاص. وبخلاف ذلك سيقود الاقتصاد إلى انكماش أعمق. نعم، تلك حجة كينزية. ولكن هذه حالة كينزية.
إنني شخصياً أوافق على أنه يجب أن يكون هناك طريق جدير بالصدقية لتقليص العجز والديون التراكمية من شأنه أن يؤدي إلى ميزانية متوازنة، إذا لم يكن فائضاً. وسيكون ذلك أساسياً إذا تعين على المملكة المتحدة أن تتأقلم مع السكان المتقدمين في السن في الأجل الطويل. وأوافق كذلك على أنه يجب أن يكون الطريق واضحاً. وبالنظر إلى النسب العالية من الإنفاق إلى الناتج المحلي الإجمالي ــ تقارب 50 في المائة ــ فإن الطريقة الأمثل للمضي قدماً هي بواسطة السيطرة المتشددة، وواسعة النطاق، وطويلة الأجل على النفقات. لكن المضي بوتيرة أسرع من تلك التي تصورتها الحكومة الأخيرة يمكن أن يهدد التعافي: تتوقع منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، مثلا، أن يكون النمو 1.3 في المائة هذا العام، و2.5 في المائة في 2011. وحتى هذا ينطوي على عدم تخفيض الطاقة التشغيلية الزائدة.
بطبيعة الحال، ربما يجادل المرء بالقول إن السياسة النقدية المتراخية للغاية يجب أن تستخدم وسيلة للتعديل. لكن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية تريد إزالة ذلك الدعم كذلك. أما لماذا تقدم منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية هذه التوصية، فهو أمر لا أستطيع أن أفهمه.
على الأرجح أن تكون الحجة المناسبة هي أن السياسة النقدية طريقة مدمرة لإعادة تعويم الاقتصاد، فهي تميل إلى إضعاف سعر الصرف (وبالتالي رفع التضخم)، ترفع أسعار المنازل والأصول الأخرى، وتشجع الاقتراض من جانب القطاع الخاص المدين بدرجة كبيرة للغاية. لكن إذا اتخذ المرء هذا الاتجاه، فسيجادل من دون شك ضد التشديد المالي السريع. وبناءً عليه، في حين أن الحكمة التقليدية تقول إن أفضل مزيج هو السياسة المالية المتشددة والسياسة النقدية المتراخية للغاية، إلا أن ذلك ربما يكون خطأ جسيماً.
على خلفية التشديد المالي السريع، ربما تبرهن السياسة النقدية المتراخية للغاية أنها غير فعالة. مثلا، يبقى نمو العرض النقدي والائتمان متدنياً للغاية. وعلاوة على ذلك، سعر الصرف الحقيقي الفعلي للاسترليني استقر منذ أوائل عام 2009، وتعززت قيمة الجنيه حديثاً مقابل اليورو. ولا يشير أي من هذا إلى أن السياسة النقدية متراخية للغاية في الوقت الحالي. وينطبق ذلك إلى حد كبير بعد إجراء تقليص مالي كبير. وإذا كان هناك تشديد نقدي حاد إضافة إلى ذلك، فإن فرص تجدد الانكماش عالية للغاية، وتحديداً في الوقت الحالي، حيث يبدو من المحتمل أن تصبح منطقة اليورو أكثر ضعفاً مما كان يتوقع قبل بضعة أشهر.
ويبدو أن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية تتخذ وجهة النظر التي تقول إن المخاطرة الكبيرة الوحيدة هي فقدان «الصدقية» المالية والنقدية. لكنها ليست كذلك. فالمخاطرة الأخرى ــ الأشد خطورة من وجهة نظري ــ هي أن يتعثر الاقتصاد إلى سنوات عديدة. وإذا حدث ذلك سيكون القضاء على العجز المالي صعباً للغاية.
إذن، حسبما تعتقد منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية والحكومة الائتلافية البريطانية، يجب تسريع التشديد المالي، إذ النتيجة هي سياسة نقدية متراخية للغاية إلى أن يترسخ التعافي. في المقابل، إذا كانت السياسة النقدية غير فعالة، ويمكن أن تكون كذلك، يجب الإعلان عن التشديد المالي، لكن على أن يتم تأجيل التطبيق إلى أن يصبح التعافي آمناً. وأنا شخصياً فقدت الآن الثقة بوجهة النظر التي تقول إن إعطاء الأسواق ما نعتقد أنها بحاجة إليه في المستقبل ــ حتى لو أظهرت قليلا من إشارات الإصرار على ذلك الآن ــ يجب أن تكون هي الفكرة المسيطرة في السياسة. ويجب أن تكون كذلك هي فكرة منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.