الأكذوبة التي صدقناها
ما زالت تداعيات البلطجة والقرصنة الصهيونية على أسطول الحرية مستمرة ومرشحة للتصاعد، فتركيا الجديدة ليست مجرد ظاهرة صوتية، بل دولة تعتز بتاريخها وتحترم ذاتها وتثق بنفسها، ولذا تعاملت مع هذه البلطجة الإجرامية بصرامة وحدة وبطريقة الدول التي تؤمن بقدراتها وتقدر ذاتها وقوتها، فهي لم تجلس على أعتاب مجلس الأمن تشكو وتولول، ولم تذهب لواشنطن تتبرك بها خشية ورهبة، بل سحبت على الفور سفيرها من تل أبيب، وربطت موقفها بإجراء تحقيق دولي، وتقديم كيان العدو الصهيوني اعتذاراً رسمياً وعلنياً ومقبولاً، ورفع الحصار عن غزة، وهذه سمة الدول والشعوب التي تحترم وتثق بنفسها.
على الجانب الآخر برزت ظاهرتنا الصوتية العربية ولكن في أردأ صورها في اجتماع مجلس وزراء الخارجية العرب، الذي خرج بقرارين، الأول بنقل موضوع الحصار لمجلس الأمن الدولي، والثاني تكليف الأمين العام للجامعة العربية بإجراء اتصالات مع الولايات المتحدة بشأن الحصار على غزة، وهذان القراران يعكسان حالة التيه التي يعيشها العالم العربي بعد أن فقد القدرة وتلبسه العجز حتى بات يخدع نفسه بما يسمى الشرعية الدولية ومصداقية وحيادية الولايات المتحدة، وكلتاهما ليستا في حاجة إلى إثبات زيفهما.
كلا القرارين يتصفان بالغرابة وصعوبة الفهم والتفسير، فالحصار المضروب على جزء من الشعب الفلسطيني هو قرار صهيوني تعسفي فاشي، فما دخل مجلس الأمن فيه وهو مبارك له بصمته عنه ..!!؟، وما الذي يمكن أن نتفاهم فيه مع واشنطن لرفع الحصار وهي مشاركة مع الاتحاد الأوروبي فيه ..!!؟، هل عجزنا عن اتخاذ القرار برفع الحصار عن غزة وكسره دون أخذ إذن بذلك من مجلس الأمن والولايات المتحدة ..!!؟، لقد كان الأولى ومنذ البداية عدم التردد برفض قرار الحصار من أساسه عمليا، وبعد جريمة أسطول الحرية كان أقل ما يمكن فعله على الأقل للتعبير عن مساندة تركيا المسلمة، أن يُتخذ قرار عربي ملزم وفوري بكسر حصار غزة وتسيير قوافل الغذاء والدواء ومواد البناء وكل ما يحتاجون إليه وفك سجنهم الكبير، واستغلال هذا التعاطف العالمي الإنساني مع مأساة غزة بالدعوة لتسيير قوافل بحرية أخرى، لا أن ننتظر الإذن من مجلس الأمن، وموافقة واشنطن.
أتوقف عند هذا الالتزام بما يسمى الشرعية الدولية ممثلة في مجلس الأمن، والقرار العربي بالذهاب إليه لطرح قضيتي السلام المعطل من قبل العدو الصهيوني، وحصار غزة الذي يفرضه العدو بشكل غير قانوني وغير إنساني غير مبال بالقوانين والشرعية الدولية، فما الذي يمكن أن نخرج به من هذا المجلس ..!!؟، وإلى متى نظل مخدوعين بوجود شيء اسمه الشرعية الدولية؟ فهذه الشرعية ما هي إلا أكذوبة دولية، فمجلس الأمن الدولي لا يمثل إلا شرعية المنتصرين في الحرب العالمية الثانية، وتلك الحرب لا ناقة لبقية دول العالم في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية فيها ولا جمل، فهي حرب أوروبية أمريكية أي غربية بحتة وإن شارك فيها طرف آسيوي هو اليابان، ولذلك صمم المنتصرون نظاما دوليا جديدا على أنقاض عصبة الأمم له وجهان، الأول مجلس أمن ركز في يده القرار الدولي وتسيطر عليه خمس دول أعطت لنفسها الحق بأن تكون دائمة العضوية ولها حق الاعتراض دون غيرها على أي قرار دون أن ينتخبها أحد، بل فرضت نفسها بحكم أنها تمثل المنتصرين في الحرب، والثاني منتدى دولي سمي الأمم المتحدة يضم كل دول العالم، والأمم المتحدة في ظل هذا النظام «لا تهش ولا تكش»، فقراراتها ليست ملزمة ولا قيمة ولا قوة قانونية لها، فكل ما في أيدي الدول الأخرى المغلوبة على أمرها هو أن تفش (خلقها) من على منبرها، كما فعل العقيد القذافي حين مزق ميثاقها من فوق منصتها، ثم بعد ذلك يعود الجميع إلى بلدانهم بأمن وسلام.
وفق هذا التوزيع التعسفي للقرار والسلطة الدوليين ما بين مجلس أمن تحتكره أقلية، وأمم متحدة لا تملك قرارا، أصبح العالم يدار بقانون غاب فعلا، وهو قانون القوة وحدها وليس نصوص الشرعية والمواثيق الدولية، وهذا ما فهمه كيان العدو الصهيوني بحذافيره بعد أن ضمن ولاء القوى الكبرى المهيمنة على مجلس الأمن وعلى رأسها الولايات المتحدة له، فأخذ يمارس السلب والعدوان وأخيراً القرصنة البحرية دون أن يكترث لقانون دولي، أو خشية من شرعيته ممثلين في مجلس أمن يملك فيه جور النقض الأمريكي والبريطاني على وجه الخصوص.
في حالة الحصار غير القانوني وغير الشرعي وغير الإنساني المضروب على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، كان علينا أن نكسره ولا نعترف ولا نتقيد ونلتزم به، ولسنا في ذلك مجبرين وملزمين بأن نستأذن مجلس أمن ولا غيره، لأننا نمارس فيه حقا شرعيا وقانونيا وإنسانيا لا يجوز أن نستأذن فيه شرعية دولية مكذوبة نحن مخدوعون بها.