نحو تنافسية العاصمة السعودية
قبل نحو عقد من الزمن سعدت واستمتعت وأنا أستمع إلى تقديم ورقة عمل في مؤتمر الأكاديمية الأوروبية للتسويق عن تنافسية جمهورية سلوفينيا, وكيف أصبحت هذه الدولة الصغيرة تضع اسمها على خريطة استقطاب الاستثمارات الدولية بكل اقتدار عن طريق استراتيجية محكمة قائمة على بناء العلامة التجارية لتعكس تنافسيتها الدولية. والحقيقة أن بناء العلامة أصبح واحداً من أقوى أدوات التسويق الاستراتيجي, فهناك إدراك عام لدى الأكاديميين والممارسين بأن الأماكن يمكن أن يكون لها علامة كما هو الحال بالنسبة للسلع والخدمات. وكان لفيلب كوتلر ـ أبو التسويق ـ الفضل الكبير في ترسيخ مفهوم التسويق للمواقع والأماكن عبر كتابه الشهير «تسويق الأماكن». فبعد دراسته عشرات المدن والأماكن في أنحاء المعمورة قدم للعالم مبرراته المنطقية والتحليلية لسقوط المدن والأقاليم في أزمات الركود والكساد وكيف أن النهوض من ذلك الركود لا يعتمد على حرب الأماكن واستضافة الفعاليات الرياضية والأولمبية وعقد المؤتمرات الدولية وإنشاء الجوائز العالمية، بل ينبني ويعتمد على بناء الاستراتيجية التسويقية المكانية.
واليوم نستبشر خيراً كثيراً للعاصمة الرياض بإنشائها مركز الرياض للتنافسية الذي يسعى إلى تعزيز مكانتها على خريطة الاستثمار الدولي وإبراز قدراتها التنافسية ومزاياها النسبية. تسويق المدن والبلدان توجه عالمي مهم بني على علم له أصوله ونظرياته وأطروحاته وتجاربه. والعلامة ربما أصبحت الآن من أقوى أسلحة التسويق الاستراتيجي لتسويق الأماكن. فكما نرى اليوم فإن معظم الدول تمتلك منتجعات راقية وفنادق ذات الخمس نجوم ومناطق جذب جميلة ومزارات أثرية عريقة. وكل دولة تدعي أن ثقافتها مميزة وتراثها عريق, وتصف شعبها بأنه شعب ودود ومرحب بالزائرين وهناك خدمات متأهبة لخدمتهم، ما جعل الادعاء بأن هناك تميزا ملحوظا بين الأماكن أمراً صعباً للغاية.
ويعد بناء علامة المدن السبيل والطريق السليم لبناء علامة الدول, كما أن بناء علامة مميزة للمدينة أسهل بكثير من بناء علامة للدولة, فكلما كان المكان أصغر من حيث المساحة كان بناء العلامة أسهل, فالدولة ربما ينظر إليها بطريقة متباينة من قبل أكثر من دولة، كما أن المواطنين أنفسهم ربما ينظرون إلى مناطق داخل الدولة بطريقة متفاوتة توقعهم في التعميم. كما أن النظر إلى الدولة يتعلق غالباً بالكليات والعوامل الكبرى مثل الوضع السياسي والاقتصادي والثقافي بخلاف المدن والمناطق. وربما لا توجد سوى عشر أو أقل من تلك الدول التي تمتلك علامة دولية إيجابية تخدم المجال الذي يمكن أن تتطور من خلاله تلك الدول مستقبلاً. أما البقية فجميعهم يواجهون عملاً شاقاً للوصول إلى سبل إدارة وتعزيز علاماتهم وصورتهم الدولية. إذ إن تغيير نظرة العالم لدولة ما ليس سهلاً, كما لا يتوقع أن يتحقق في زمن قصير، وربما تطلب الأمر عشرات أو مئات السنين من الزمن.
إن مبادرة أمير الرياض في إنشاء هذا المركز المواعد يعكس الوعي الكبير لآليات وتوجهات المنافسة المستقبلية، ويشجع هذه المساعي الحميدة أننا لسنا في حاجة إلى تصنيع العجلة من جديد, خاصة أن الأدبيات والتجارب في تسويق المدن مستفيضة وتزخر بها قواعد البيانات ومراكز الأبحاث والمراجع الإلكترونية. وما يجدر الإشارة إليه في نموذج تنافسية الرياض كعاصمة أن تراعى في وضع استراتيجيتها التسويقية خمسة متطلبات لا غنى لأي مدينة عنها كي تحقق التميز والتنافسية وهي: إعادة هندسة البنى التحتية للمدينة، بناء القوى العاملة المحلية المؤهلة، دعم وتطوير رواد الأعمال، بناء شراكة مستديمة بين القطاعين العام والخاص في المدينة، والتعرف على الميز والأماكن التنافسية للمدينة الصناعية والتراثية والثقافية والصحية والتعليمية والسياحية.
البداية في عملية بناء العلامة لأي جهة تكون في تحديد القيم العميقة المستديمة لتلك الجهة. ولكل علامة شخصية خيالية لها قلب ورأس. يعكس رأس الشخصية الصفات التي تتميز بها العلامة في حين يعكس القلب المشاعر العاطفية المتعلقة بالمكان. ومن المهم أن تكون جميع وسائل الاتصالات التسويقية تتمحور حول الرأس أو القلب. كما يتم بناء الاستراتيجية بالتمحور على المستهدفين وتعريفهم بدقة ثم فهم حاجاتهم بعناية واهتمام. تسويق المدينة ليس كتسويق السياحة فيها, فتسويق المدينة تتطلب مجهودات أكبر بكثير من تسويق السياحة فيها. إذ إن الاقتصاد والمناخ الاستثماري والمبادلات التجارية والاندماج في المنظمات الدولية، كلها عوامل مهمة لتسويق علامة المدينة في حين أن بعضاً من هذه المتطلبات غير جوهرية لتسويق السياحة فيها. ومن أمثلة ذلك على مستوى الدول أيرلندا واسكتلندا فكلتاهما تمتلكان مقومات سياحية رائعة ومواقع تراثية وطبيعية خلابة استقطبت ملايين السياح الأمريكيين واليابانيين لكنها لم تستطع أن تستقطب إحدى الشركات الأمريكية أو اليابانية للاستثمار فيها لأن المتطلبات مختلفة.
ويمكن للمدينة بشكل أسهل من الدولة أن تغير الانطباع والصورة ذهنية لها إذا وضعت برنامجاً متوازناً مبنياً على دراسة عميقة لمكتسباتها وميزاتها التنافسية. ومن الأمثلة الحية على ذلك تجربة (صنع في اليابان) Made in Japan فقبل 30 عاماً كان هذا الشعار سلبياً لدى كثير من الأسواق الأوروبية والأمريكية, ويعني لدى المستهلكين أنه منتج متهالك، ومن الدرجة الثانية، ورخيص. وكان من أهم دوافع شرائه في الأسواق أنه رخيص الثمن. وبعد أن تبنت دولة اليابان مفهوم الجودة العالية والمنافسة الدولية والسبق التكنولوجي, أصبحت المنتجات اليابانية في طليعة المنتجات العالمية من حيث الجودة، والسعر المنافس والتقنية العالية, فتحول التصور للعلامة في زمن قصير إلى تصور إيجابي رائد في العالم.
إن ما يقنع الزوار المحتملين للاتجاه نحو زيارة مكان دون آخر ربما كان أقرب منه وأسهل للوصول هو ما يمكن أن يقدمه ذلك المكان من تعاطف نشأ لدى الزائر لذلك المكان، وكذلك اكتسابه قيمة حقيقية يقدرها الزائر حق قدرها. وستكون المنافسة القادمة لجذب الزائرين للأماكن ليست منافسة سعرية بل ستكون منافسة مركزة على العقل والقلب, وهذا مكمن الاعتماد على بناء العلامة لتحقيق ذلك. ومن الجميل أن نذكر أن دراسة علمية قارنت بين ست مدن عالمية هي: الريفيرا الفرنسية، مدينة براغ، ميامي، برلين، إسطنبول، وإيبيزا, وأظهرت تلك الدراسة أن الزائرين للعمل والسياحة والاستثمار يفضلون مدينة إسطنبول في المرتبة الأولى بفارق كبير عن غيرها من المدن، في حين أتت ميامي وبرلين في ذيل القائمة. وعزا المشاركون ذلك إلى أهمية أن يمتزج البعد التمثيلي مع البعد الوظيفي لعلامة المدينة كي تتمكن من المنافسة العالمية, وهي نتيجة عميقة تعكس أهمية المنهج العلمي لتسويق تنافسية الرياض.