الإمام عبد الله بن المبارك في الغرفة التجارية
أرجو أن يسمح لي القارئ الكريم بأن نستريح قليلاً بعيداً عن ارتفاع معدلات التضخم وانخفاض أسعار البترول وازدياد معدلات البطالة وتذبذب أسواق الأسهم، إلى أن نرحل قليلاً في حياة الإمام عبد الله بن المبارك (118هـ) الذي كان يلقب بأمير المؤمنين في الحديث حتى قال عنه الذهبي: وحديثه حجة بالإجماع. وقال عنه سفيان الثوري: عالم المشرق والمغرب وما بينهما. وعندما مات قال عنه هارون الرشيد: اليوم مات سيد العلماء. وكان - رحمه الله - من كبار الزهاد وكثيري البكاء من خشية الله ومع هذه المكانة الرفيعة كان من كبار التجار حتى أنه بلغ فيها مبلغاً عظيماً ولكن كما قال أحد أصحابه: لقد كان دينار ابن المبارك في جيبه ولم يكن في قلبه. وقال أحدهم: رأيت بعيرين محملين دجاجاً مشوياً لسفرة ابن المبارك. وكان لابن المبارك خادم مفرغ لصناعة الحلوى حتى يقدمه لأهل الحديث. قال أحد علماء زمانه: لم نعرف الفالوذج (وهو نوع من أنواع الحلوى) إلا في بيت ابن المبارك. وكان ابن المبارك يعي جيدا معنى المسؤولية الاجتماعية فكان ينفق على الفقراء في كل سنة 100 ألف درهم، وكان يسدد المئات بل الألوف من الدراهم لمن يحتاج أو يمر بضائقة أو يسجن في دين. وكان يسيّر حملات الحج سنوياً على حسابه الخاص لمن أراد الحج. قال له أحد أصحابه أنت تأمرنا بالزهد والتقلل والبُلغة، ونراك تأتي بالبضائع كيف ذا؟ قال: يا أبا علي، إنما أفعل ذا لأصون وجهي، وأكرم عرضي، وأستعين به على طاعة ربي.
لقد كانت حياة عبد الله بن المبارك في عالم التجارة تمثل التاجر الصادق الذي نحتاج إلى أمثاله في حياتنا المعاصرة فهو نموذج من نماذج تجار طبقوا تعاليم الدين الإسلامي في واقعهم وفي حياتهم ما أبهر العالم بأخلاقهم وتعاملهم وجعلهم يسلمون القيادة لهم عن حب وتقدير بل دخلت شعوب بأكملها إلى الإسلام بسبب تجار المسلمين، فالتاجر المسلم يعلم أن الدنيا جسر للآخرة يستثمر فيها أمواله فيما يفيده في الآخرة لا فيما يؤخره عنها، والتجارة ليست شطارتها أن تأكل أموال الآخرين بل التجارة أن تأخذ حقك وتعطي الآخرين حقوقهم، وأن مما يؤسف له أنه مع كثرة الجهات الرقابية والإشرافية على التجار والأسواق التجارية في زماننا إلا أنك في المقابل تجد التجاوزات والمخالفات التي ترصدها تلك الجهات فمن مكافحة الغش التجاري إلى جمعية حماية المستهلك والتي استهلكت عندما أرادت أن تحمي المستهلك من تأسد بعض التجار إن علينا أن نعزز الجانب الأخلاقي في جميع تعاملاتنا وأن نشيع ثقافة الأخلاق بيننا ليس على مستوى التجار فقط بل حتى على مستوى المؤسسات المالية عليها واجبات أخلاقية تجاه عملائها وتجاه المجتمع يجب أن تراعيه عند تصميم منتجاتها وعند تطبيقها فالدين المعاملة.