تساؤلات حول المواقف التركية

المواقف التركية الأخيرة من كيان العدو الصهيوني لا تلفت النظر فقط، بل تثير كثيرا من الجدل، وهي تستحق ذلك فعلا، فتركيا وعلى الرغم من كونها دولة إسلامية كبرى، إلا أنها كانت غائبة أو مغيبة عن مجمل قضايا الأمة الإسلامية, وخاصة القضية الفلسطينية, بطبيعة نظامها العلماني، ولهذا جاءت مواقفها الأخيرة مثيرة للاهتمام والاستفهام معا، والاستفهام سببه أن تركيا دولة تحكم بنظام علماني يفصل ما بين الدين والدولة، وتتطلع دوما صوب الغرب الأوروبي وتعمل بكل دأب للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي على الرغم من كونها جغرافيا آسيوية، وعضوا فاعلا ومهما في حلف الناتو، وتقيم علاقات قديمة ووثيقة مع كيان العدو الصهيوني إلى حد قيام تعاون عسكري واسع معه تمثل في مناورات عسكرية مشتركة سنوية، كل هذه الصفات والمواصفات تجعل من انغماسها في قضايا إقليم تسعى للابتعاد عنه وإلى حد التصادم مع كيان العدو, هذا التصادم الحاد والعلني، غير متوافقة ومتناسقة، فما الذي تبدل حتى يحدث مثل هذا التغيير والذي سيكون فعلا مؤثرا في موازين القوى في الصراع العربي الصهيوني ..؟ وهل هو تغير تكتيكي أم مبدئي..؟
أصحاب النظرة الحذرة والمبالغ في حذرها يرون في تغير الموقف التركي أنه مجرد مصلحة برجماتية بحتة، تمارس من خلاله أنقرة لعبة سياسية تسعى إلى توظيفها في قضية معقدة للحصول على أثمان سياسية ما، وهناك ثمن مهم تريده أنقرة, وهو دفع أوروبا للتجاوز عن تحفظاتها لانضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، من خلال لعبها دورا مركزيا ومحوريا في منطقة تشهد أعقد وأكثر القضايا التي تشغل العالم، وتواجه فراغا تريد المشاركة في ملئه إلى جانب قوى أخرى مثل إيران وكيان العدو الصهيوني، وهذا ما رمى إليه وزير الدفاع الأمريكي في تصريح لافت بعد كارثة أسطول الحرية يلوم فيه أوروبا على تشددها في انضمام تركيا إليها.
هذا الرأي يسحب من تركيا وجهة نظر أخرى تقول بعكسه تماما، وهو أن حزب العدالة والتنمية ذا التوجه الإسلامي المستنير، يسعى للعودة بتركيا لجذورها الإسلامية، ويسير بهدوء وذكاء لنزع الهيمنة العلمانية المقيدة لأي توجه إسلامي من خلال المحافظة على التوجه الديمقراطي حتى يمكن له تطبيق نهجه الإسلامي بدفع من الشارع التركي وحسه الديني العميق، ويرى هذا الرأي أن مواقف حكومة حزب العدالة والتنمية ورئيسها السيد أردوغان القوية من الكيان الصهيوني عبر قضية حصار غزة والعدوان عليها العام الماضي، هدفه استنهاض الحس الإسلامي لدى الشعب التركي، حتى يمكن استخدامه لتجاوز تمكن النهج العلماني، ولتحجيم الأحزاب العلمانية، وحدّ قدرة الجيش من التدخل كما فعل في حالات سابقة وبحجة حماية النظام العلماني.
هذا اللغط والجدل حول تفسير مدى وحجم هذا التغير التركي، يعود أساسا لغياب التحليل المبني على معلومات دقيقة وحقيقية، والقدرة على قراءة أبعاد وصول حزب العدالة والتنمية للحكم وبهذه الأغلبية الكبيرة في بلد تحكمه علمانية بالغة الصرامة، كما أن نظرتنا العربية السطحية للأحداث والتغيرات وغياب فاعليتنا والتأثير فيها، هو ما دفع إلى هذا الارتباك وعدم اتخاذ الموقف الملائم في فهم حجم التغير الجاري في تركيا، فحدث هذا التباين ما بين ردة فعل شعبية عاطفية عارمة صورت السيد أردوغان مثلا على أنه المنقذ من حالة فشل وشلل تامين، وردة فعل عربية رسمية باهتة وبطيئة مثقلة بالظنون والشكوك والريبة، وهو ما أتاح المجال للدس والتشكيك في تحليل الدوافع التركية من ناحية، ولإعطائه زخما شعبيا عاطفيا لإحراج النظام العربي الرسمي من ناحية أخرى.
ما الحكم الصحيح على حقيقة دوافع هذه المواقف التركية الجديدة من ناحيتين، الأولى علاقتها بالمنطقة وخصوصا كيان العدو الصهيوني، والأخرى علاقتها بأوروبا والولايات المتحدة ..؟
لا شك أن حزب العدالة والتنمية أخرج تركيا من محدودية الدور في المنطقة، وجعلها قوة فاعلة ومؤثرة في الإقليم بعد أن كانت مجرد دولة هامشية لا دور لها ولا تأثير، واختارت للعودة إلى المنطقة كقوة إقليمية مؤثرة التصادم مع الكيان الصهيوني في قضايا إنسانية لا سياسية تتعلق بالطريقة التعسفية التي يمارسها هذا الكيان العنصري تجاه الفلسطينيين، وهذا الاختيار دقيق وذكي وفاعل، فالقضية الفلسطينية لها بُعد إسلامي، إضافة إلى بعدها العربي، كما أن لها بعدا إنسانيا على خلفية إيغال الكيان الصهيوني في ممارساته العنصرية والعدوانية الفاضحة ضد الفلسطينيين، ومواقف حكومة حزب العدالة والتنمية القوية من العدوان على غزة، ومن ثم تبنيها أسطول الحرية الإنساني، ارتكزت أولا على مشاعر الشعب التركي المسلم الذي عبر عنها بقوة تجاه القرصنة الصهيونية على أسطول الحرية، وثانيا أنها الدولة الإقليمية الأكثر قبولا من كيان العدو ومن إيران في ملء فراغها.
هل هذا الدور التركي مجرد تكتيك سياسي لجني مكاسب سياسية أم هو موقف مبدئي يحدد توجه تركيا استراتيجيا لتكون قوة إقليمية في المشرق العربي والإسلامي بعد الرفض الأوروبي لها ..؟ سؤال ستجيب عنه الأيام القريبة وليس البعيدة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي