التركز السكاني ومتطلبات خطط التنمية الوطنية
عند طرح البدائل التنموية التي تحذر من إشكالية التركز السكاني والخدمات والأنشطة الاقتصادية المختلفة في المدن الرئيسة وأهمية الاستفادة من مقومات المدن المتوسطة والصغيرة والعودة إلى الاهتمام بالمناطق الريفية، فإن ذلك لا يعني, بأي حال من الأحوال, اتخاذ إجراءات لإبطاء نمو المدن الرئيسة, وذلك لدورها الفاعل ومساهمتها في بناء الاقتصاد الوطني وتعزيزه، إلا أن المطلوب هو وجود رؤية واضحة لدور هذه المدن مستقبلا وإدخال التعديلات على أدوارها الحالية, بحيث تتولى القيادة المؤسسية وتترك للمدن المتوسطة والصغيرة مهمة التوفير المباشر للوظائف والأعمال في مختلف مجالات الأنشطة غير التقليدية.
وعند النظر إلى ما استقطبته المدن الرئيسة في مجال الصناعة مثلا، نجد أنه تم توطين ما بين 80 إلى 85 في المائة من جملة المؤسسات الصناعية في المدن الخمس الرئيسة، ويتم تشغيل أغلبيتها بعمالة أجنبية، وهذا ما جعل نسبة غير السعوديين ترتفع في المدن الرئيسة إلى نحو 42 في المائة, في حين تنخفض هذه النسبة إلى أقل من 19 في المائة في المدن المتوسطة والصغيرة، وهذا يبرز سبب تركز غير السعوديين في المدن الرئيسة نتيجة لوجود المؤسسات الصناعية فيها، وعليه فإن تشجيع إقامة الصناعات وبعض الجامعات والمستشفيات المتخصصة وما في حكمها في المدن المتوسطة سيعمل على تخفيض التركز السكاني في المدن الكبرى, ويسمح بإيجاد فرص عمل جديدة للسعوديين.
وعلى صعيد الوضع البيئي في المدن الكبرى وعلى الرغم من الاستثمارات الحكومية والخاصة الضخمة التي تم توظيفها في مجال الإسكان والمرافق والخدمات العامة، إلا أنه أصبح من الصعب التحكم في أوضاعها البيئية مستقبلا ما لم يتم التحكم وكبح التركز السكاني فيها, الذي سيؤدي بالتأكيد إلى تفاقم المشكلات الحالية التي تعانيها المدن من ظهور للأحياء العشوائية الفقيرة وتدني مستوى كفاءة الخدمات والمرافق وما يصاحب ذلك من مشكلات وأخطار بيئية واجتماعية وأمنية.
والمتتبع للخطط الخمسية للدولـة يجدهـا جميعـا, خصوصـاً من الخطة الخمسية الرابعة، قد ركزت على ضرورة تحقيق التنمية المتوازنة بين مناطق المملكة المختلفة، فقد جاء في خطة التنمية الرابعة للفترة من (1405 إلى 1410هـ) أهمية التركيز على التنمية المتوازنة من خلال تشجيع التنمية في جميع المناطق، والخطة الخمسية الخامسة للفترة من (1410 إلى 1415هـ) أكدت أهمية التنمية المتوازنة وربطها بالاحتياجات السكانية والاستفادة من المرافق والخدمات المتوافرة. كما جاء في الخطة الخمسية السادسـة للفـترة من (1415 إلى 1420هـ) التأكيد على معالجة التباين التنموي بين المناطق مع توفير التجهيزات الأساسية للمدن الأقل نصيبا وتطوير القدرات البشرية وتفعيل دور القطاع الخاص. أما الخطة الخمسية السابعة (1420 إلى 1425هـ) فقد أكدت أهمية تحقيق النمو المتوازن بين المناطق وزيادة مساهمتها في التنمية الوطنية والاستفادة من الميزات النسبية للمدن والقرى في كل منطقة وكذلك الخطط التنموية اللاحقة.
إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه: هل تم تنفيذ ذلك؟ وكيف يمكن أن نضع الخطط التنموية القادرة على تحقيق الأهداف الوطنية, التي يمكن أن يقاس الإنجاز بها, بمعنى متى يكون لدينا رؤية وطنية واضحة ومحددة لمستقبل التنمية في المملكة محددة المعالم والمسؤوليات، بحيث ترتبط بها جميع الخطط والاستراتيجيات والأهداف والأفكار والرؤى لجميع القطاعات والأجهزة الحكومية والخاصة؟ وبذا ننتقل من مجتمع تحرك قراراته العاطفة والفردية وردة الفعل إلى مجتمع مؤسسي تبنى قراراته على الرؤية الوطنية المعتمدة. ولنا عودة ــ إن شاء الله ــ إلى أهمية وجود رؤية وطنية معتمدة ملزمة لجميع الشركاء في التنمية يسهل تنفيذها ومراجعتها وتحديثها.
وقفة تأمـل:
واحرص على حفظ القلوب من الأذى
فرجوعها بعد التنافـر يصعبُ
إن القلوب إذا تنافر ودهــــــا
مثل الزجاجة كسرها لا يجبرُ