ممتطي موجة التنوير
موجة التنوير والتطوير والتحديث والقول بتحريرنا من عوائق تقف حجر عثرة أمام دخولنا العالمية من أوسع أبوابها، كما تسمى، ركبها كل من هب ودب، وأصبح يفتي فيها ويجادل دون أرضية فقهية ومعرفية تلتزم بكوننا مجتمعا مسلما لا يقبل فيه ما يقبل في غيره، فخصوصيتنا التي يتنكر لها البعض ويرفضها جملة وتفصيلاً، الخصوصية المرنة الوسطية وليست المتزمتة، نابعة من كوننا بلدا نزيد فيه على غيرنا من البلدان الإسلامية معنويا وليس تميزا من أي نوع، احتضانه للحرمين الشريفين وينبوع الرسالة المحمدية، وهي خصوصية تفرض علينا الالتزام الديني الوسطي، غير المنغلق ولا المنفتح بلا قيد ولا شرط في آن واحد.
لا أحد ضد التطوير والتحديث والتنوير، وليس هناك مجادلة في أننا كمجتمع لا بد أن يجدد أساليب حياته ويطورها بما يضفى عليه حيوية تتوافق مع التغيرات الطبيعية، فالمجتمع الذي لا يطور نفسه وحياته، يبقى أسيراً للتخلف والتأخر عن ركب العصر، ولكن هذا التطور لا بد أن يقنن وفق قواعد شريعتنا الإسلامية الأساسية الصالحة لكل زمان ومكان، وربط حركة التطوير بالشريعة لا يعني وضع قيود عليها، بقدر ما هو عملية ضبط وانضباط، حتى لا نصبح مجرد تابعين مقلدين على حساب هويتنا الإسلامية التي علينا التمسك بها، فالأمة التي تفقد هويتها، تفقد استقلاليتها وقيمتها.
المؤسف أن من ركب تلك الموجة ذهب بعيداً في مطالبه بالانفتاح، ومس في ذلك جوهر هويتنا الإسلامية في الصميم، فالاختلاط مثلا، الذي هو الآن الجبهة الساخنة في الجدل الدائر، منهم من يريده مطلقا دونما ضوابط تتوافق مع أحكام الدين، ويطالب بأن تحرر المرأة من ربقة ما يسميه عادات بالية. والأكثر أسفاً أن هناك من اتهم المرأة السعودية بأن التزامها نابع من عملية ''برمجة'' تعرضت لها لعقود طويلة، وليس وليد قناعتها الدينية والتزامها الإيماني، وفي هذا إساءة لها باعتبارها مغيبة العقل، بحيث تعرضت لغسيل دماغ جعلها قابعة خلف نقابها.
ما تتعرض له على سبيل المثال هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من هجوم وتشويه من خلال تضخيم الأخطاء والتجاوزات التي يرتكبها بعض منسوبيها عن جهل وتشدد لا لزوم له، هي تصرفات تساعد منتقديها وتقدم لهم المادة المناسبة لتشويهها، يندرج ضمن رؤية بعض ممن يدعون إلى الانفتاحية المطلقة. مع تسليمنا بوجود تجاوزات في أساليب عمل الهيئة، إلا أنها سلبيات لا تبرر نقض جوهر رسالتها ومهامها والمطالبة بإلغائها، كما يقترح البعض، إلا ممن يريد إخلاء مجتمعنا من جهة ضابطة حتى لا يكون لها دور في المحافظة على أخلاق وقيم مجتمعنا الإسلامي، وبعض من هؤلاء يريد ويسعى لإشاعة وتطبيق أسلوب حياته الأسرية التي ارتضاها واقتنع بها، ويريد فرضها على المجتمع كله بداعي التطور، ومن ذلك الدفاع عن الاختلاط بشوائبه بحجة الثقة بالابنة والأخت.
في خضم هذه الاندفاعة غير المحسوبة لما يسمى بتطوير المجتمع وفك قيود التزمت عنه، ينسى البعض أن مجتمعنا إضافة إلى تدينه، تحكمه أيضا صفة أخرى وهي المحافظة، فمجتمعنا، مجتمع محافظ في عمومه يصعب تجاوز ثقافته بسهولة، فحتى الشريحة النسائية المحدودة التي استهوتها دعاوى الانفتاح ودغدغت غرائزها شعارات التحرر من قيود عادات بالية، كما يلتف البعض على ثوابت الدين، تجد حرجا بالغا وعدم تجرؤ على السير في الأماكن العامة دون عباءة نسائية، بل إن النساء الأجنبيات يلتزمن بها احتراماً وحرجا من طبيعة مجتمعنا المحافظ. وهذه ميزة المجتمعات ذات الشخصية القوية وثقافتها المحترمة، خصوصا إن هي ارتكزت على قاعدة إيمانية.
هذا المفهوم، وأقصد به محافظة مجتمعنا وهي بالتأكيد مستمدة من العمق الديني المؤثر فيه، غاب عن الداعين للانفتاح الكامل على أسس واهية ومخادعة وهي أن مثل هذا الانفتاح المنفرج هو الطريق الصحيح للتطور والتقدم والتحديث. وما يستغرب له هو أنهم يركزون في ذلك على المرأة وكأنها العقدة، وهي فعلا كذلك، المعرقلة للتغريب المنشود، الذي يتمناه البعض لمجتمعنا، والتغريب ثقافة وسلوكا شيء، والتطور شيء آخر، فمجتمع مسلم محافظ بقيم وأخلاق سمتهما العفة كمجتمعنا، يمكن له أن يتطور أكثر مع المحافظة على هويته الدينية والاجتماعية، فالتطور ليس في المظاهر والشكليات، بل في إنجاز العقول والعمل والإنتاجية، ولدينا أمثلة عديدة جمعت بين تمسكها بعقيدتها قولا وفعلا، وفي الوقت نفسه أسهمت وبإبداع في تحقيق إنجازات علمية، وهذا ما ينفي ربط التطور بالتخلي عن الهوية الدينية.