الأربعاء, 30 أَبْريل 2025 | 2 ذو القَعْدةِ 1446


هشاشة ثقافية وتراجع العقل وتحول النخبة إلى طبقة

هذه الواقعية السياسية قادته للسؤال عن الواقع الثقافي العربي الذي نتج عن ممارسة المجتمع العربي وعن الظروف القائمة في البلاد العربية، وهو حين يعيد مقدمته للطبعة الثانية من الكتاب، لا يخفي عتبه على سوء الفهم الذي استقبل به العقل الثقافي العربي كتابه، وخاصة من قبل الكتاب الذين رأوا في دراسته للفكر التاريخي والأيديولوجيا العربية المعاصرة دعوة صريحة لإحلال الليبرالية الرأسمالية في حياة المجتمع العربي، في مقابل بنية ومدرسة فكرية رسخت أقدامها في الثقافة باعتماد منهج التقليد للماضي.
لا يخفي العروي عتابا يواجه به المثقف العربي، فيقول في عتابه للمثقفين العرب: ''قدمت هذا التحليل للوضع الثقافي حتى أبرهن على أني أدركه من ناحية البحث الموضوعي، لذلك أتعجب من بعض الردود على محتوى كتابي هذا، لم ير بعض القراء في الدعوة إلى تبني المنهج العلمي إلا تبريراً خفياً لليبرالية الاقتصادية والسياسية ولم ينظر إلى نقد السلفية ومفهوم الأصالة إلا من حيث إنه يضعف القوى المناوئة للاستعمار فوجهت إلى هذا الكتاب انتقادات في هذا المعنى..''.
دأب العروي على نقد الأيديولوجيات العربية المعاصرة التي أدت إلى النكسة وقادت إليها، وتولى التنظير لمسألة الدولة الحديثة. وحاول أن ينظر إلى معنى التاريخ في الثقافة العربية ومدى حضور العقلانية والموضوعية في الفكر العربي وشكلها، وهو يجزم أن العقل العربي لم يستوعب مكاسب العقل الحديث، لذلك نجد المثقف العربي في البلاد العربية ذو طابع مزدوج، فهو يدعو لتطبيق المنهج الموضوعي من جهة على مجتمعه، ومن جهة ثانية، يستخدم التقليد في تبرير كل ظاهرة، ومن هذا الواقع يحاول في دراسته للفكر التاريخي إماطة اللثام عن الواقع الثقافي للمجتمع العربي من باب الفكر المهيمن، والمنهج السائد أو الذي يحتكم إليه المجتمع.
يقسم العروي الوطن العربي إلى شطرين: محافظ مغلق، ومنفتح واثب على الأفكار الغربية، وبرأيه فإن الشطر المحافظ ''هو المتفوق الآن'' وهذا الشطر المحافظ يربط هدف التحرر باستعمال المنطق التقليدي. ولكن أخطر ما في المنهج التقليدي عنده وهو الذي انتصر على التقدمية العربية وجاء بالإسلاميين يكمن في أن هذا التيار يمهد لمصالحة مع الغرب الرأسمالي.
يتساءل العروي في محاولته لدراسة أسباب التدهور ومراجعة الراهن، هل يمكن فصل الهزائم العربية عن الأنظمة التي كونت أرضيتها؟ فهو هنا لا يضع إخفاق الأيديولوجيا كنتيجة للتناقضات الأيديولوجية بقدر ما كانت الهزيمة نتيجة متوقعة لهشاشة الثقافة، وتراجع العقل، وتحول النخبة المثقفة إلى طبقة مستقلة متعالية على المجتمع ومتحكمة فيه.
وهو حين يعاين الثقافة العربية في زمن النكسة وما بعدها يقر بأن الوضع الأيديولوجي العربي بمظاهره العامة هو وليد الضغط الإمبريالي ووليد العلاقات الطبقية؛ ومن هذه الزاوية يرى العروي أن كل وضع فكري مطابق للحالة الاجتماعية الناجم عنها، ويفيد بأن أي تغيير أيديولوجي لا يتأتى إلا في نطاق الصراع والممارسة.
النقد الأوسع لدى العروي هو الذي يوجهه لفئات المثقفين العرب. فهو يرى أنهم عاشوا دوراً مزدوجاً؛ يتأثرون بالصراعات التي تمزق مجتمعهم ويقاسونها، لكنهم في الوقت نفسه يبدعون أو يقتبسون ويروجون الأفكار والرموز والشعارات التي تقدم للفئات الاجتماعية لكي تستخدمها للدفاع عن مصالحها.
في هذا السياق يعاين العروي صاحب الكتب الأكثر جدلا في تناولها لتحديث العقل العربي من الأيديولوجيا العربية إلى مفهوم الدولة إلى العرب والفكر التاريخي والمناهج المتحكمة في عقلية النخبة العربية، وهو يدعو إلى وجوب دراسة النخبة العربية من حيث المنهج المتحكم فيها وفي تفكيرها، ويحصرها بين منهجين الأول ميثولوجي والآخر موضوعي.
وطبقاً لهذا التصنيف، يرى العروي أنه إذا تغلب المنهج الموضوعي تحصل ثورة كوبرنيكية (نسبة إلى كوبرنيكس مكتشف دوران الأرض حول الشمس) في حين أن المنهج الميثولوجي يبقى المجتمع في مكانه، لا بل إنه يمعن كثيرا في التردي وهو منهج لا يترك للحداثة، أو بالأصحّ للجديد، وليس للحداثة فقط، سوى هامش ضيق وهزيل في إحداث وعي جديد.
الدعوة إلى تحديث المجتمع العربي في رأي العروي كانت تتطلب ''جيلاً أو جيلين''، أما الثورة الفكرية فإنها تمس المنهج لا الأهداف التي ستبقى لمدة طويلة شاخصة في النهار السياسي العربي، وهذه الأهداف هي تحقيق التنمية والديمقراطية والاشتراكية والوحدة.
ومع صعوبة الإقرار باستمرار هدف الوحدة حاضرا، إلا أنه بالوسع القبول بفكرة انتشاء الديمقراطية في الراهن العربي وتطور المجتمع العربي باتجاهها بشكل بطيء، أما إذا انتصر المنهج التقليدي في حياة المجتمع العربي فإنه سيلجأ إلى الماضي لإنجاز إصلاحات الحاضر، ومثل هذا اللجوء إلى منهج الماضي يمنع فهم إنجازات العصر الحديث التي ضمنت كلمات حرية ومساواة وكرامة مفهوماً موضوعيّاً، وبانعدام الإدراك تتقدم إمكانية الإنجاز الفعلي.
يتساءل العروي عن النتائج التي أدى إليها استخدام المنهج التقليدي الذي يخضع الحاضر للماضي، فيقول: ''لا يكفي أن يقال أن علي عبد الرازق مثلاً قد قضى على دعوة الخلافة وأبرز شرعية النظام الوطني التمثيلي في مصر عندما ألّف ''الإسلام وأصول الحكم''، هل كان يمهد أم لا الطريق لحركة الإخوان المسلمين باستعماله منهجاً انتهازياً انتقائياً في تعامله مع معطيات التاريخ الإسلامي.
عام 1965م، كتب العروي في كتابه الأيديولوجيا العربية المعاصرة يقول: إن العرب يتساءلون منذ زمن طويل: من نحن ومن الغير؟ وحسب أي منطق نحلل الماضي والحاضر ونخطط للمستقبل، ولو حررت الكتاب بعد سنة 1967م لغيرت الصيغ مع الإبقاء على المضمون ولأصبحت الأسئلة ما تجديد الاستعمار؟ وما الثورة؟ وما واقع أو سر المجتمع المتخلف؟ هل هو آلة ناقصة أم ماضٍ نافذ أم مستقبل غير مستحقر؟ ولماذا التملق والادعاء؟ هل الرؤساء كلهم خونة، أم هناك واقع غير ثابت.
آنذاك رأى العروي أن هناك ثلاث صيغ في المشهد الفكري العربي أسست للنكسة، وهذه الصيغ جاءت في ثلاثة خطابات؛ أولها خطاب الشيخ الذي تقدم بعمامته، وهو يعزو أسباب النكسة بسبب فجورنا وعدولنا عن الأخلاق السامية، وثانيها جسدها الزعيم الشديد، الذي صاح بأننا غلبنا لأن زعماءنا تفردوا بالحكم، وثالثها في خطاب داعية التقنية الذي طالب بآلات جديدة ومصانع متطورة، وكان لكل واحد خطاب يبرزه حسب ميوله ومصالحه، فالشيخ وجد مبرره في تعصب العدو الديني المجهول، والزعيم السياسي رأى مبرره في وجود برلمان لدى العدو، أما داعية التقنية فكان مبرره في كثرة المدارس التقنية لدى العدو.
كان الشيخ المعمم عشية النكسة يحتفظ بالتعارض بين الشرق والغرب، ويتذكر بعض الوقائع حول الفلاسفة، ويتساءل: ما سبب ضعفنا؟ ويجيب: إنه عدم إخلاصنا لرسالة الله، أما رجل السياسة والزعيم، فهو الذي حل محل الشيخ على مقدمة المسرح، وأخذ يفكر بأن سبب انحطاطنا هو عبودية قديمة، و''الرجل الجديد أو السياسي حقوقي تائه.. بين روسو ومنتسكيو، لكن هذا السياسي الحقوقي سينصرف إلى العمل مفرطاً غاية الإفراط في الحجج الركيكة''، أما داعية التقنية فهو الشخص الجديد، ليس محامياً ولا طبيباً، إنه ابن صاحب دكان وربما فلاح، وأحياناً من الأقليات، وباختصار، فهو الذي بقي حتى ذلك الحين على الهامش.
خلال مدة من الصمت اكتسب هذا الرجل تحت تأثيرات مختلفة صورة جديدة عن الغرب، وهذا النموذج سينحسر من أفكار الشيخ ورجل السياسة وسيستشهد داعية التقنية بنموذج اليابان ويحدد الفارق بيننا وبين الغرب، بأنه مبني على الحد الفاصل وهو الصناعة وليس الدين.
هذه النماذج الثلاثة، أغرقت الشارع العربي قبل النكسة في وحل انتظار الأمجاد، وجعلت إيمان الناس محكوماً بالنصر الآتي، ولكن دون استعداد، وجعلت القيادات تراهن بسذاجة على دعم الغرب، تلك النماذج برأي عبد الله العروي تمثل ثلاث لحظات من الوعي العربي الذي حاول منذ نهاية القرن الـ 19 أن يفهم ذاته، تلك هي نماذج ما قبل النكسة التي حكمت وعينا ووجهت مصائرنا، وانتهت بنا إلى هزيمة كارثية.
بعد النكسة عاد العروي يسأل: هل الجيش القومي بوصفه قوة ضاربة كان قادراً على عقلنة المجتمع بكيفية شاملة، وهل الحزب السياسي المسيطر كان قادراً على إنجاز العقلنة أم أن للفئة البيروقراطية دوراً في تلك العقلنة؟ العقلنة المنشودة مطلب لفكرة ليبرالية أو ديمقراطية تحطمت على صخرة مشكلة فلسطين سواء بعد 1948م أو بعد 1956م وأخيراً 1967م، فالعمليات العنيفة من الانقلابات العسكرية بعد 1948م، وسقوط الملكية في العراق والوحدة بين مصر وسورية والهجوم الثلاثي على مصر 1956م، وسقوط الملكية في ليبيا بعد 1967م، كانت بمثابة ردة فعل عنيفة لإخفاقات الحكومات القائمة، وهنا يعتقد العروي أن المشكلة الفلسطينية دعمت التيار التقليدي أيديولوجيا ثم سياسياً، فالإصلاحات السياسية والاقتصادية لم توضع في إطار متناقض للفكر التقليدي، بل تساكنت معه، وفي بعض الأحيان نفذت وبرزت باسمه فحافظت عليه.
وأخيراً، ما النتيجة التي وصلنا إليها بعد النكسة؟ يقرر العروي أن قيام الكيان الإسرائيلي هزم الحركات والتيارات اليسارية والليبرالية كلها، فضعفت بإضعافها كل فكرة ليبرالية ديمقراطية وكل دعوة إلى الفكر الواقعي التاريخي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي